صدرت رواية (قِوامَة) للشاعرة والكاتبة هدى محمد حمزة عن دار شمس للنشر والإعلام في طبعتها الأولى في نهاية 2023، وبدأت الراوية ملخصة في قسمها الأول شخصية ثائرة ويبدو أنها الكاتبة نفسها، وهي عليمة بكل تفاصيل شخصيات الرواية وتناولت شيئا عن شخصية أحمد زوج بطلة الرواية وطليقها فيما بعد، والذي غيبته إلى حد بعيد أو مرت عليه مرورا سريعا في بداية الرواية محاولة أن تبين للقارئ ظلمه لها، عن طريق رمزية غلق شبابيك المنزل المطلة على الحي بغطاء سميك من الواح خشبية ليحجب نظر الناس في الحي عن البيت ورؤية زوجته... فتحدث معركة كلامية وتتطور المشاجرة بينهما بالتهديد والضرب، مشيرة إلى مكان وقوع السكن في بداية حي القاضية – محافظة بابل وكانت إشارة هامشية مع أن الزمان والمكان عنصران أساسيان في ارتباطهما مع الحدث والشخصيات.
ولا بد من التوقف عند مفهوم السيرية، لأنها ليست هي مذكرات بعيدة عن الخيال، إنما هي تعبير عن السيرة الشخصية عبر حدث روائي وشخصيات بمسميات أو بدونها، فضلا عن واقعيتها، وفيها من الخيال كثير، لدرجة قد يبتعد المؤلف عن سرد حياته الشخصية، وهذا ما يجعله أكثر حرصا على التفاصيل في حياة بطله أو أبطاله، ويقترب من الأحداث، لكي يوفر القناعة التامة في النص، ليجعل المتلقي مصدقا كل ما يجري من أحداث غير منسجمة داخل النص ارتباطا مع سيرة الكاتب أو الراوي. وغالبا ما يكون المتلقي حريصا على معرفة الوقائع بكل تفاصيلها. والسيرية هي من أصعب الأساليب التي تتناوله الرواية، وتتطلب قبل كل شيء الحيادية وتتصدى لموضوعات مصيرية عامة، بعيدا عن السيرة الذاتية والمذكرات وقد يكون فيهما ابداع لكنهما لا ينتميان إلى فن الرواية.
وقد يسأل المتلقي كثيرا ذاته والآخرين، مثلا لماذا وقفت الأم ضد ابنتها ورفضت أن تدخل منزل والدها الذي ولدت فيه وترعرعت ولها حصة فيه، وكذلك الموقف المماثل لأختها وأيضا أخيها، وحتى (الكنة)، هذه المواقف تتنافر اجتماعيا وعاطفيا مع السائد، وكان من الواجب إعطاءها الدور لكي توضح موقفها، واضحا وصريحا ليكون مؤثرا بالحدث ومقنعا للجميع. وإلا من الصعب أن يتفق القارئ مع الرواية التي جردت الأم من طيبتها حيث لم تساند أبنتها المغلوبة على أمرها في محنتها مع أطفالها الثلاثة بعد طلاقها، وساندت قساوة أرملة أبنها الشهيد وكانت ترفض عودتها إلى البيت بتحالف مع الأم والأخ والأخت، ويبدو أن الكاتبة كانت مصرة على تصوير هذه الشخصيات بهذه البشاعة ومانعة لهم من الظهور والإدلاء بآرائهم وأن تأخذ دورهم، مقتصرة الأمر على ما تدلي هي به من آراء وتصورات مما يؤكد أنها تريد أن تنتصر لنفسها ووجهات نظرها، طامحة إلى كسب جمهرة القراء إلى جانبها، وهذا ما يسئ للنص ويبعده عن الحقيقة والواقع. ويقتصر النص على سلطة الراوية، وقد تكون صادقة بكل ما كتبته. ولكن القارئ بحاجة إلى أدلة توفر له القناعة بالنص الروائي ليتأثر به، وأنا كمتلقي لم يقنعني موقف الأم من ابتها ولم تستطيع الراوية توفير القناعة وكنت آمل من الكاتبة أن تمنحها هذه الفرصة وكذلك للأخت والأخ اللذان يتفقان مع موقف الأم. لأن الراوية حاولت بكل جهد وبمعلومات مبتسرة أن تجعلها أماً ظالمة لابنتها، بالوقوف ضدها رغم ما تعانيه من ابتزاز وصعوبة الحياة في زمن الحصار الاقتصادي للعراق، وقدرتها على تحمل الصعوبات مع أولادها. لدرجة حاولت طردها من بيت أبيها، وهذا الموقف لا يتناسب مع الأم في الواقع، فالأم في الغالب منحازة لأبنائها إلا إذا كانت تمتلك مبررات قوية، وكان ينبغي أن يعرفها المتلقي. وهذا يعد فخا سرديا بنيويا مؤثرا في جسد الرواية. وكان بإمكان الراوية ان تعطي الدور للشخصيات الثلاث وكذاك للطرف الآخر في الموضوع وهو الطليق (أحمد).
وعبر عدة عوامل منها: الحبكة في الكتابة، والموضوع ومصادره وتعدد الشخصيات أو الأصوات داخل النص الروائي ولنا في تجربة غائب طعمة فرمان مثلا حيث عنون روايته بـ (خمسة أصوات) وكان الكاتب الصوت السادس غير المعلن، وجرى اكتشافه من قبل القراء والنقاد.
لقد دأبت الرواية الحديثة على الاهتمام بالمتلقي وسعت وتسعى لكي يكون مشاركا ليس بشكل مباشر بل من خلال ما تتركه من فسح بحاجة إلى من يملأها بتفاصيل تتعدد وتختلف حسب نوعية المتلقي، على عكس الكتابات القديمة التي أهملت هذا الجانب تماما، فهو غير معني، وخارج العمل. فلم يتركوا له أي فراغ ليملأه حسب وعيه وثقافته وانسجامه مع النص وتفاعله ومن هنا جاءت فكرة النهايات المفتوحة للقارئ بدلا من النهاية المغلقة، وغالبا ما تكون مقحمة على طبيعة السرد، ومخرجاته وتقنياته المعروفة ومنها الوصف والحوار والاسترجاع والاستشراف والخيال. فضلا عن الفضاء الزمكاني والحدث والشخصيات والمتلقي، وهذا يتعارض مع ضرورة وجود نهاية للرواية.
لقد وقفنا عند كثير من الأحداث الواردة في هذه الرواية التي اتخذت السيرية منهجا لسرد وقائعها، معتمدة على الراوي العليم وتهميش الشخصيات الأخرى والتي كان من الممكن أن تلعب دورا مهما في ببناء الحدث عبر منحها فرصة لتعبر مباشرة عن موقفها الواضح والصريح، والرواية هي الوعاء الأوفى والأقدر على التعبير في أية مرحلة.
وتناولت الكاتبة إشارات عن السجن وقضية اعتقالها لأسباب سياسية، وكذلك مساهمة بطلة الرواية في النشاط النسوي. ولم تتوسع في هذين المجالين، ولاحظت أيضا أنها لم تعط لمفهوم (القوامة) بعده القانوني والاجتماعي، ودوره في معاناة شخصية (ثائرة).
ولم تعلل الراوية سبب توظيف الشعر في روايتها حيث بدأت وانتهت به، وكانت مقاطع طويلة نسبيا، وعديدة متوزعة في النص، ولم تأت على لسان أحد الشخصيات، يبدو أن أغلبها للكاتبة نفسها عدا مقطعين؛ الأول من ترنيمة مصرية قديمة، والآخر من ملحمة كلكامش، وكثير منه إن لم نقل كله لم يكن مؤثرا في الحدث الرئيس، أو له ضرورة في تقنية السرد.
هذه أبرز الملاحظات والهنات التي رافقة النص ومع ذلك لا يمنع ذلك من القول إن جهد الكاتبة كان كبيرا، لأريد التقليل من شأنه... بل أنها كشفت عن مقدرة جيدة في الكتابة وكانت لغتها سليمة، ولها إمكانية التطور والإبداع في أعمالها القادمة، وأدعوها للإفادة من كل الملاحظات الحريصة سواء هذه أو من نقاد أو قراء آخرين، وأتمنى لها مزيدا من النجاح والإبداع في هذا المجال.