أصعب ما يواجه الأديب الروائي، رسم صورة الواقع بمرارته بل وحتى أفراحه وسعادته، بلغته وأسلوبه الأدبي، يحافظ فيها على متانة وتناسق بنية الرواية أدبياً وعدم الإخلال بهيكليتها الأدبية وبنيتها اللغوية، والابتعاد والتخلي عن السرد الممل والإطالة والوقوع في مطب الوصف السردي الجاف لمجريات الأحداث0

وهذا ما توجه اليه الروائي راسم الحديثي للحفاظ عليه في روايته “أولاد حمدان” التي صور فيها بأسلوبه الأدبي الممتع وسلاسة الحبكة التي نسجها في الرواية 00 واقعاً استطاع فيه أن يمزج بين دقة تصويره للواقع بأحداثه وشخوصه، وبين اللغة الروائية الأدبية التي تجذب القارئ بأسلوبه السلس الممتع مكنته من التسلل الى وجدان القارئ دونما ملل، وربط شخوص روايته بين بعضها بتصويره لأحداث تتداخل فيما بينهم ورسم كل شخصية بذاتها ورصد وتدوين حركاتها وأحداثها بانفعالاتها وسلوكها الشخصي كي لا تنفلت من عقالها وتخرج عن سياق أحداث الرواية0

في روايته “أولاد حمدان” لم ينسلخ عن واقعه وحياة شعبه، ولم ينظر إليه بمنظور متعالٍ ولا بمنظور دوني 00 فقد وظّف مخزونه الثقافي في التقاط أحداث روايته وشخوصها، فاستطاع أن ينسج مرحلةٍ وثّقها بكل دقةٍ وشفافيةٍ.

تتحدث الرواية عن عائلة حمدان كنموذج عراقي، لكنها وإن بدت موغلة في الخصوصية العراقية، إلا انها تنفلت من عقالها الزمني والمكاني لتمتد إلى الكثير من الأمكنة والساحات الجغرافية المحيطة بالعراق بدقائق تفاصيلها، يتلقفها القارئ العربي لينصهر في بوتقة أحداثها المتطابقة تماماً لما يعيشه على أرضه وواقعه0

“أولاد حمدان” كل منهم يرسم حكاية لواقع حياته وما يحيط به من شخوص وعلاقات نسجها الروائي في حبكة متراصة غذّت البعد الواقعي لحياة بلدهم وحياتهم ذاتها بما تناوله من أحداث تحيط بهم وتدفعهم للتعامل معها كل وفق رؤيته الخاصة ومفهومه ووعيه وظروفه التي تقوده قسراً أحياناً للسير في طريق لم يكن يرتضيه أو يتفق مع ما يحمله من وعي، فتتوزع الأدوار في هذه العائلة بين أحمد المتوازن الذي يحاول لمّ شمل العائلة، وصباح العنيد المتهور في البحث عن سالبي أموال والده والثأر منهم، وأسماء التي ضاع حبها في طرقات تخبط العادات والتقاليد المتوارثة، وكذلك الأم التي تستجدي وتستعطف العائلة للحفاظ على ما تبقى من أُطر ارتباطها خوفاً من التفكك والضياع0

وأوضح ثورية وحماس واندفاع الشباب للتغيير وارتباطهم بأحزابهم أو الانفلات منها إلى ما هو أعم وأشمل في الانتظام في صفوف المقاومة الفلسطينية 00 تطرّق إلى المظاهرات وما لحق بها من أحداث وشخصيات لينهي روايته بإعدام “صباح” وحركة “الجثامين العراقية” التي امتدت وطالت.

ولم يبتكر من أية شخصية بطلاً أسطورياً 00 كانت بطولة شخوصه في تجسيده الدقيق لمعالم كل شخصية وفق نفسية ووعي ومحاكاة الأحداث التي تحيط به من زاويته وتجعله يتعامل معها بمنظوره وتركيبة شخصيته العقلانية أو المندفعة أو المتهورة، بل وحتى حالاته النفسية واستذكاره لتاريخ ما مرّ معه وما يمكن أن يتجاوزه0

واستطاع الروائي أن يصوغها بدقة مترابطة ومتداخلة بين الشخوص وترابطها مع بعضها من الأحداث، وطرق التعامل معها عبر شخصية كل واحد بما يمليه عليه وعيه والظروف التي تحيط به ومعاكستها أو استسلامه لها.

“أولاد حمدان” ملحمة روائية واقعية تجسد الأدب الروائي العربي وتضيف له بعداً إنسانياً وعاطفياً.

راسم الحديثي، رسم فأبدع صوراً من العشق والحب والنضال والثورة، والبيئة العراقية المحلية بتفاصيلها.. استطرد فأغنى الرواية والأدب الروائي بمجريات أحداث ملتصقة بالواقع عن السجون والمعتقلات ومصادرة الآراء والدسائس والنميمة وتغلغل أجهزة الأمن والفساد المتجذر في مفاصل الدولة0

“أولاد حمدان” رواية تحمل في طياتها تاريخاً استطاع فيه الكاتب أن يبدع أدباً ويسطّر واقعاً 00 رواية ترتقي إلى إحدى الركائز في حقل الروايات العربية، بل وتصعد رقيّاً إلى العالمية إذا قُيّض لها مترجماً يعطيها حقها وبعدها الفني.

عرض مقالات: