أن تنتصر في معركة ما يعني أن تقف ثابتا لا ترتجف عزيمتك، تستخدم كل الأسلحة المتوفرة عندك وأنت تصارع خصما عنيدا مسلحا مثلك في منازلة شريفة يواجهك بكل شجاعة وثقة قد تنتصر عليه بقوة السلاح ورباطة الجأش وطول المقاومة وأن تغلب عليك تخرج منتصرا أيضا لأنك قارعت بطلا وجاهدت برجولة للتغلب عليه.
في المعارك وحتى الانتخابية منها إن خسرت تخرج منتصرا إذا لجأ خصمك إلى طرق ملتوية غير شريفة من أجل القضاء عليك مستخدما الغدر والمكر والقفز على قوانين الاشتباك التي لم يتم الاتفاق عليها أو رشوة الحكام والجمهور وجعل غير القانوني قانونيا والسكوت عن كل محرمات النزال. هذا ما حصل في الانتخابات العراقية السادسة التي جرت في 11/11/ 2025 فقد استخدمت الكتل السياسية التي تمتلك سلطة نظام المحاصصة والتوافقات كل الطرق الخسيسة واللاأخلاقية من أجل ابعاد القوى المدنية الشريفة التي تمتلك تاريخا نضاليا يمتد منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 وهي من فتح نوافذ الحياة العصرية العلمانية وعملت على أن يتبوأ العراق مراتب متقدمة حضاريا بين دول العالم، هذه المكانة العظيمة التي احتلها البلد لم ترض القوى الاستعمارية بريطانيا وأمريكا والعالم الغربي والدول المتخلفة الرجعية في المنطقة العربية وبلدان الجوار ايران وتركيا.
أول ما قامت به أجهزة المخابرات الاستعمارية هو محاولة تحجيم دور القوى المدنية في البلد والقضاء عليها من خلال خلق تنظيمات وأحزاب معادية فكريا لها فظهرت إلى الوجود الأحزاب الاسلامية التي عمدت، ومن يوم تأسيسها الأول، بالتشويش والقضاء على كل الإنجازات الحضارية التي عملتها القوى المدنية واليسارية ومن قوانين تحررية كقانون الأحوال الشخصية وتأميم الشركات النفطية والقضاء على الهيمنة الاستعمارية ورفع يدها عن اقتصاد ومقدرات البلد وجعل القرار السياسي عراقيا دون وصاية أية دولة وسن قانون الاصلاح الزراعي الذي قلص من هيمنة الاقطاع وانتزع الاراضي الزراعية ووزعها على صغار الفلاحين وحرر هذه الطبقة المستغَلة من العبودية والظلم الذي كان يمارسه الاقطاعيون ضدهم وغيرها المئات والآلاف من القرارات والقوانين المهمة التي ساهمت بترسيخ مبدأ العدالة الاجتماعية رغم كل المعوقات والعصي التي وضعها الظلاميون في دولاب عربة البلد الماضية إلى أمام. لم تكتف الأجهزة الاستعمارية بالعون الذي تقدمه لهؤلاء الظلاميين بل أسقطت النظام المدني وجاءت بالعصابات القومية والمرتزقة في قطارها كما اعترفت قيادات هذه العصابات في شباط عام 1963 وانشأت نظاما دمويا قتل عشرات الآلاف من المناضلين المدنيين واليساريين وزجت بأعداد أكبر في سجونها في طول البلاد وعرضها، وتشهد جرائمهم في نقرة السلمان وسجن الحلة والمحاكم الخاصة في الأعظمية وسجون بغداد والرمادي والكوت وغيرها. القوى العنصرية الشوفينية اشترت ذمم بعض شيوخ العشائر من أجل أن يكونوا عونا لها ويدها الضاربة ضد كل من يرفع رأسه من القوى المدنية، كما أنها استفادت من فتاوي المراجع الدينية في محاربة كل من يختلف معها فكريا وخاصة الحزب الشيوعي. لم تجد القوى المدنية بفروعها النضرة العديدة مجالا للعمل السياسي منذ عام 1963 وحتى يومنا هذا فقد انشغل نظام حكم البعث، الذي رعته الدوائر الاستعمارية، بالحروب طيلة بقائه في السلطة، امتد لأربعة عقود، وملاحقة القوى المدنية التي وقفت ضد نهجه التدميري فكان نصيبها القتل والملاحقة والهروب إلى المنافي. بعد إسقاط نظام صدام عام 2003 قدّم الاحتلال الأمريكي البلد هدية إلى أحزاب الاسلام السياسي السنية والشيعية والأحزاب العنصرية الكردية والعربية.
جميع هذه القوى التي استلمت هذا الطبق الذهبي لا تؤمن بالديمقراطية وليست في برامجها وتعتبرها بدعة من بدع الغرب ووسيلتها للصعود إلى السلطة والاستحواذ على مقدرات البلاد نهبا للثروات وتخريبا للبنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وقامت بخطوات (ديمقراطية) في إجراء انتخابات زائفة ولست دورات استخدمت فيها شتى بدع التزوير ومن توظيف للمال العام في شراء الذمم وخلق نظام محاصصة طائفية عرقية أجهز على كل ما هو انساني وحضري وخرب كل القطاعات الزراعة والصناعة والتعليم والصحة والسياحة وكل رئة تتنفس بها البلاد وسن القوانين بما تنسجم مع مصالحها الشخصية والحزبية والفئوية ومنها قانون الانتخابات السيء الصيت من أجل التضييق على القوى المدنية ومنعها من النفاذ إلى السلطتين التشريعية والتنفيذية وابتكار الوسائل البشعة من الملاحقة والاغتيال والتغييب في السجون والتضييق على الحريات العامة والحقوق وحرية التعبير وتجريدهم من أصواتهم، ولذلك لاحظ المراقبون تراجع حضور القوى المدنية في كل عملية انتخابية. في هذه الدورة السادسة لم يتمكن المدنيون أن يوصلوا شخصا واحدا إلى قبة البرلمان لبشاعة الكتل السياسية الدينية والعرقية في استخدامها المال العام ودفع الرشى المليارية والوعود للشباب العاطل بالتعيين وفتح المعسكرات الوهمية لكسب الأصوات والتزوير وتوظيف الملايين من المراقبين لضمان أصواتهم التي أضافت لهم أكثر من ثلث المقاعد النيابية.
لكن يبقى السؤال هل انتصرت الكتل السياسية الدينية الشيعية والسنية والقوى الشوفينية الكردية والعربية في الماضي والحاضر وفي كل جولة انتخابية...؟ كلا فقد هزمت هزيمة نكراء رغم احتفاظها بغالبية الأصوات لكن نصرها المزعوم سرابي مفضوح يعرفه القاصي والداني ونهايتهم وشيكة أمام أبسط هزة اقتصادية أو سياسية. بقي المدنيون محافظين على مبادئهم وقيمهم النبيلة وأياديهم البيضاء وفكرهم النير ونضالهم المستميت لتحرير البلد من هذه القوى الظلامية وأجنداتها المشبوهة وذممها المرهونة لبلدان الجوار. المدنيون الأحرار منتصرون دائما..