اخر الاخبار

مشكلةُ الحكم عند العربِ بعامّةٍ وفي العراق بخاصّةٍ، وقضيّةُ من يتولّاه، وعلى أيّ نحوٍ يُديره؛ أمرٌ مُعضِلٌ قديم، تطاولت به العهودُ، وكلُّها لم يأتِ بغير صيغة الغَلَبةِ والاستبدادِ والقهر؛ حتّى إذا أزال المغولُ الدولةَ العربيّةَ الإسلاميّة، في سنة 656 هـ تغلّبتْ أقوامٌ أعجميّة على العراق وأهله، وسامتهم أصنافًا من الظلم والجور؛ فاستقر في الأذهان أنّ الحكمَ إنّما يقوم بالقهر والغَلَبةِ، وليس للرضا موضعٌ فيه، وأنّ الحاكم إنّما يُسلَّطُ على الناس تسليطًا، وكأنّه قدرٌ لا مَرَدَّ له. وقد كان لهذا النهجِ في الحكمِ أن يرسَخَ بأربعةِ قرونٍ من حكمِ السلطنة العثمانيّة.

وحين أُديلَ من العثمانيين، واستقام أمرُ الإنكليز على البلد، وأخذتِ الدولةُ العراقيّة تتكوّن شيئًا فشيئًا؛ كان مبدأُ الانتخاب قد أخذ يزاحم مبدأَ الغَلَبَةِ القاهرةِ، وشرعتِ الحكومةُ تتأسس على أركان منه، بنحوٍ ما؛ على أنّه لم يرسخ، ولم تنغرس له جذور في الأنفس وفي الثقافة؛ إذ ما يزال غريبًا في الأرضِ وبين الناس؛ وظلّت الأعينُ، من بعدُ، تنظر إلى الشوكةِ، والغَلَبَةِ القاهرةِ، بإعجاب خفيّ مرّةً، وإعجاب مستعلنٍ أخرى، ولا تريدُ لها أن تتنحّى. وكان أهلُ الشوكةِ، وهم الجيش في طبقته العليا، لا ينون في الإعراب عن أنفسهم، فيذهبون إلى أنّ الأمرَ لا يستقيم إلا بهم، ويسعون، بأنحاء شتّى، إلى أن يبسطوا جناحَهم على الدولة كلّها.  وكان بعضُ أهلِ الحكم والسياسة يستنرهم إذا ضاقت به الحالُ. ولا شكّ في أنّ مبدأَ الانتخاب لم تجرِ شؤونُه على ما ينبغي من صدقٍ، ونزاهة، واستقامة؛ بل كان محفوفًا بما يشوب، ويُخلّ؛ فكان ما اعتراه من خللٍ مدعاةَ أن يتوثّب أهلُ الشوكةِ لإرجاعِ الأمر إليهم مدفوعين برغائبهم في الاستحواذ، والانفراد، والاستبداد؛ فكان أن دخل البلد، بهم، في معمعانِ الانقلاب العسكريّ! وكلّ انقلاب يزيد على ما سبقه في التسلّطِ والطغيان، وانكارِ حقوقِ الناس في العيش الهادئ الكريم؛ فكان أن أُهمِلَ مبدأُ الانتخاب، واستبعِدَ، ونُسي، واستقرّ لدى العامّة أنّ السلطةَ إنّما تُنال بالغَلَبَة، وأنّ الطريقَ إليها يكون بالدبّابةِ المسلّحة!

ولقد كان من طغيانِ أصحابِ الشوكةِ واستبدادِهم، وجهلهِم، أن وضعوا السلاحَ بين أبناء الشعب، فأوقعوا الحربَ بين العرب والكرد، وأوقعوها بين العراق وجيرانه، واضطهدوا من لا يرى رأيَهم، وأشاعوا الخوفَ، وأحبطوا الآمالَ؛ منحرفين بمسيرةِ البلد عمّا ينبغي لها من الانشغال به؛ ممّا يزيدُ في عناصر الحياة، ويصونُ كرامةَ الإنسان.  

حتّى إذا قُدّر لزمن الانقلاب أن يُدبر، وقُدّر للسلطة العليا أن ترجعَ مشروطةً بالانتخاب وجد الناسُ أنفسَهم بإزاء أمر لا يدركون أبعاده كلّها؛ لأنّهم لم يزاولوه، ولم يتمرّسوا به، وليس لهم منه إلّا الاسم؛ ذلك أنّ أصحابَ الشوكةِ من أهل الانقلاب كانوا قد اعتاقوا الشعبَ أن يَخبِر الانتخابَ، وأن تترسّخَ طرائقُه عنده.

ومن أجل أن يؤتيَ الانتخابُ ثمارَه، ويحقّقَ سلطةً شرعيّة؛ لا بدّ من زمن كافٍ يستوعبُ فيه الناسُ أبعادَ الأمر كلّها، حتّى يستقرَ في وعيهم، وفي لا وعيهم، أن لا سبيلَ لإدارة البلد إلّا بانتخاب صحيح يقوم على وعي تامّ بالحقوق والواجبات...