اخر الاخبار

في زاوية من زوايا أحد الأزقة العتيقة الضيقة، غرفة بائسة  مثل كهف من كهوف العصور القديمة، تساقط طلاء جدرانها، وانتفخ بسبب الرطوبة، رائحة الغبار تتسلل من النوافذ، أثاث مهترئ، وخيوط عناكب في السقف واعقاب سيجائر تملأ الأرض، وبعض قصاصات من صحف قديمة صفراء مثل لون التبغ، ثمة رجل في السبعين من العمر، تجاعيد الزمن تسيدت ملاحم وجههِ، والشيب غزا لحيته، وبان الضعف على جسده الهزيل، عيناه مثقلتان بالأرق تُخفيان حزناً عميقاً، غارق في مستنقع اليأس، لم يعرف الا الحزن رفيقاً له، كمن بلغ أخيراً شاطئ الراحة بعد رحلة طويلة عبر أمواج الزمن، يجلس على كرسي من الخشب، يحمل بين يديه كتاب، كأنما يناجي نفسه، وحائط متآكل استقرت عليه صورة بلا إطار لجيفارا بهتت ألوانها من القدم بقبعته السوداء، وذقنه غير الحليقة، والسيجار الكوبي، وجد في تلك الصورة إشباعًا لبعض رغباته المكبوتة، والخلاص والإنعتاق من واقعه المؤلم، كأنه بذلك يسعى إلى ترميم صورته البائسة واضمحلالها، بعد أن عاش مشرداً في الوطن، محطماً نفسياً وجسدياً، يتلاشى الإحساس بطعم الحياة، ويتنامى الشعور بالاغتراب النفسي والضياع بعد تجربة اعتقال دامت عشر سنوات، عندما اقتادوه ليلاً ، مقيد اليدين، معصوب العينين، حافي القدمين، وفوهة البندقية مصوبة نحو رأسه، جردوه من كل شيء، ليرمى بين الجدران العارية في زنزانة ضيقة محشوة بأجساد متعبة، لانوافذ تطل منها، شدة حرارة لهيب الصيف، تشعرك بأنك مقذوف الى جهنم، الهواءُ ثقيلٌ مغلفٌ برائحة البول والبراز، الأبواب الحديدية تفتح تارة، وتغلق تارة أخرى، يصحبها الصخب حيناً، ويعتريها السكون حيناً آخر، فتختلط المرئيات عندئذ وتتشابك ثم يحل الظلام، شكّلت له المدينة سجناً سلبته الإحساس بالأمن والأمان، وعاش صراعاً نفسياً، وذاق ألم العقاب الجسدي والروحي داخل غياهب السجون، واستنزفه كثيراً، أحساس بالظلم والوجع والذل، عاش انواع التعذيب، وانتشاء الجلادين، خرج من السجن إنسان محطم نفسياً، جسد مثقل بالهموم والأوجاع، فاقد الحرية والكرامة، لم يتجاوز الصراع بين الذاكرة والنسيان، هزيمة الخذلان ظلت تلاحقه باستمرار، أخذ خياله يتجول في متاهات الذاكرة تذكركيف أثرت عليه الأفكار والانشطة الثورية، وآمن بها ودافع عنها، وانخرط بالعمل النضالي، وكرس جهده في طبع المنشورات السرية، وتوزيعها على رفاق الدرب، وفي نهاية المطاف اكتشف أن الثورة مجرد وهم كبير، أنهكه غدر الرفاق، وخذلان الأتباع لمبادئهم، شعر بالخيبة والخسران، أحلامه مدفونة وهي على قيد الحياة ، بعد تحول الأنظمة الثورية الى أدوات قمع واستبداد، فقد القدرة على التكيف مع كل شيء ليعيش جحيم الذات، والألم بصمت، وخلق لنفسه واقعاً من الخيال، والرغبة بالإنطواء والخشية من لقاء الناس، وحتى سماع أصواتهم، أيقن أن الحياة مأساة ومعاناة   شعور بالغربة والعجز التام ، لايرى سوى القبح، نأى بنفسه عن كل الصخب الذي يحفل به العالم، وتوقف لديه ايقاع الحياة فالعبث واللاجدوى تحول عنده مصدراً للحرية، كأنما يعيش عزلة مكانية داخل المجتمع، دخان السجائر الذي مافتئ يعشش في رئتيه، يكاد يخنقه، أصبحت أنفاسه كالذبال المهتزة في رئتين آيلتين إلى الزوال، وهما تنفثان الدم بالسعال، تشعر نحوه بالأسى، ينفث الدخان، كما ينفث رائحة الزمن القديم، أنفاساً محبوسة فاح منها عبق الماضي، حيث يتكئ الزمن على كتف المعاناة، يسترجع عالماً من ركام الذكريات يتصل بلحظات الوحدة والرغبة بالانزواء، وشعوره بعدم التوافق مع المجتمع، والانفصال عن الواقع المؤلم، والمستقبل الذي تمثل ظلاله القاتمة أمام ناظره، استسلم للإسراف في شرب الخمر، كأنه وسيلة احتجاجه على وضعه المزري، والعيش على صدى الهزيمة، ،تتلاطم الأفكار الثقيلة، وغارق في دوامة الذكريات والندم، أكلته السنين، أشبه بحلزون صغير مختبئ في قوقعته، ليتشرنق داخلها تحت وهم الاختباء بعيداً عن أعين الناس، يداعبه هاجس الموت في كل لحظة، ويراه أقرب إليه من حبل الوريد، ينهل من الماضي على الدوام، ما يعينه على مواجهة الحاضر، عانى من العجز الجنسي بعد إصابته في أحد الحروب، واصبح رجلاً عاجزاً، غير قادر على اشباع غريزة زوجته، محطماً مركوناً في وكر النسيان، هذه الدوامة التي عاش في جحيمها، جعلته يصب جام غضبه عليها، أخذ يفتعل الشجار معها للتغطية على حقيقة مرضه، عاش حالة من اليأس والتوتر بفعل الرجولة المفقودة، والمهمشة، في مجتمع محكوم بالفحولة، فهو لايقوم بأي فعل رجولي يُجسد وجوده، بدأ يعصف به الشك، وتجتاحه الكوابيس، فوضعها تحت المراقبة، مما جعلها تبحث عن شريك يملأ فراغها، وتلبية رغباتاتها العاطفية والجنسية، وجدت ضالتها في مواقع التواصل الإجتماعي، بالتعرف على شاب ليشبع نهمها الجنسي، وإطفاءِ شهوتها بالثرثرة في جوف الليل، لم يستطع أن ينتزع نفسه من الأفق التاريخي، التأثيرات التي خطتها أحداث الزمن عبر مراحل العمر، الظلم وغياب العدالة الاجتماعية، مازال مسكوناً بهاجس الشعارات البراقة، بعد أن خذله بعض زملائه في مسيرة الطريق، وارتموا في أحضان التنظيمات الأخرى، ومنهم من سقط في الدروب الوهمية.