غوستاف لوبون في كتابه(فلسفة التاريخ) يقدم تفاسير التاريخ المختلفة ويعلق بقوله حول معنى ان نفسر التاريخ: كان قدماء المؤرخين كهيرودت قليلي الاكتراث لصحة الحوادث، و كان شأنهم مقتصرا على استنساخ ما يسمعون من أقاصيص ، و كانت هذه الأقاصيص تتألف حصراً من ذكريات باقية في ذاكرة الناس التاريخ وإلى وقت حديث تتألف من شهادة المعاصرين فقط، و هذا ما فعله المؤرخ الفرنسي المعروف جورج فيغاريلو في كتابه ( تاريخ التعب من العصر الوسيط إلى أيامنا هذه)* إذ عالج تاريخا مضنيا من التعب عاشه الإنسان و مازال ذلك لإنسان يكابده بمرارة سواء أ كان عن طريق الجسد أم من خلال الجهد النفسي و العقلي و أبرز فيغاريلو كعالم اجتماع الجسد معالم الشقاء الإنساني و كيف كانت الصعوبات و المشاق بالانهاك الجسدي و العضلي، ثم كانت التحولات التاريخية نحو الجهد و الإرهاق النفسي، الكتاب حافل بالصور المرهقة التي رسمت العالم و تحديه و دون دقائق الحوادث المهلكة التي كان يجتازها التاريخ فوق ذلك الكتاب يتكون من أقسام في بداية وضع التاريخ المتعب للإنسان الذي يفتقر لوسائط الراحة حيث سجل المؤلف المصاعب الجمة و المشاق المهلكة التي اعاقت مسيرة الإنسان في معيشته التي ابتدأت من العصر الوسيط إلى أيامنا هذه ، و من الجدير بالذكر إن وصف التعب وكما بينه المؤلف سيمتد عبر خمسة قرون من التعب الجسدي و النفسي وفق جدول تطور وسائل الإنسان في التغلب على مشاق التعب المختلفة، في معنى التعب و كيفية استيعابنا لمفرداته ، و يبقى هذا الكتاب الضخم من أنفس ما كتب في علم اجتماع الجسد، و قد استطاع المؤلف في رحلة استكشافية؛ إطلاعنا على أهم التصورات التي أعطت للتعب تاريخا مضنيا مازال الإنسان يكابده بمرارة ، و فوق ذلك الكتاب يتكون من (30) فصلاً، أما القسم الأول الذي غطى تاريخ العصر الوسيط ، فقد استغرق ( 6) فصول تعد الاكثر تشويقاً ما في محتوى التاريخ المدون المستقصي لهموم و معاناة العالم الوسيطي و معالم التحدي فيه التي تمثلها الصور الواضحة لتعب المحارب و مدى ما يقطعه من مفازات هي صورة تدفع نحو الاحتفاء بها في تاريخ الإنسانية ، فأكثر من يعاني من تعب الجسد المحارب، يتبعه المسافر عبر طرق كلها جهد و مشقة ، فيكون المحارب هو المسافر صاحب التعب الجسدي الأكبر ، و لعل حقيقة التعب كما جاء في مقدمة الكتاب في الإقرار في إن القرنين 20\21 شهد اتساعاً مذهلا في مجال التعب تعكس الإطار العام الكلي الشامل لما انتهى إليه خطاب التعب ، حيث نجد عالمنا اليوم قد ورث أنواع التعب ، و قام بالضغط عليه بشتى قواه ، حتى بتنا نعاني الأمرين من ألوان التعب المتعددة ، و مثلما كان التعب الجسدي ظاهراً منذ العصر الوسيط ، فقد تحول بالإنسان نحو العالم الحديث ببروز تحد آخر له هو عبارة عن تحدي الفئات ، مستغرقا من فصول الكتاب في قسمه الثاني (6) فصول اقتضت نشوء اثر يتعامل مع شعارات سيزار ريبا التي شرحت الشخوص التي يمكن لفن الرسم ان يستلهمها من خلال فكرة ابتكار الفئات التي جعلت من الحياة العملية أكثر اجتماعية ، و أوسع استيعاباً في خلق ما يسمى بالوظائف ، و بات التعب يترتب عليه عقوبة ، و صار مفهوم التعب يأخذ منحى آخر يلقي بثقله على الهاجس النفسي الذي اصبح يعطل مجرى الجهد العضلي في الإنسان وبات الإنسان الحديث يرهق وظيفياً ، وامتد طيف التعب مع الحداثة ، و تنوعت أشكاله و أمكنته، و أضحى معقداً في تشكيله لنظرة الإنسان لمغزى العيش ضمن الاعداد الفئوية ، صار يفقد القدرة على العيش والخلاص الفردي، وتمخض التعب الشامل الذي يوحد العالم تحت جناحيه من تنوع التأثيرات التي تقوده نحو أشكال مختلفة من التعب ، التمردات المؤلمة ، الأمراض الفتاكة ، و الحوادث الغامضة الناجمة عن الأفعال الغامضة ، و لأن ازدياد مسارات التعب تولدت مسارات الملاذات التي تقيه حدة التعب الجسدي و النفسي ، و شهد العالم الحديث ، الى جانب تفاقم الفئات و العدد الذي رسم توجهاته في نمط التعب المظاهر الكارثية في شيوع البؤس و الوهن ، و كان القرنان السادس عشر و السابع عشر شهدا حصول تطورات من أصناف التعب ترجمت هي ذاتها إلى مجموعة من العلاجات التي انتهت بثقافة التعب نحو عصر الأنوار في تحد سافر لكل ما هو حسي، و لقد شغل القسم الثالث أهم مشاهد التعب الحسي، بسبب إن العصر هو عصر الانوار الذي تفتح على العلوم العقلية التي نظرت بوعي الإنسان وقتها إن اكتشاف معالم الحواس هو بداية التعاطف مع تاريخ التعب بقواه التي وجدها تتحداه و هو يخطو نحو قطع الصلة بالحسي، و الانتباه للعقلي بسبب إن انتشار ثقافة التعب هو بدء التحدي ، و من خلال هذا البدء لاح للإنسان ضرورة ما أشار إليه فيغاريلو عن عصر الأنوار كان يريد التنبيه الحذر في ما سنقرأه عن القرن التاسع عشر من تحول وعينا للتعب من الحسي الجسدي نحو أنماط متعددة و متجاذبة من من ثقافات تاريخ التعب، التعب العددي الذي سيجده المواطن في رقعة مواطنته ، و هو نوع من تعب ميكانيكي يتمشى مع مفهوم علمي للطاقة التي برزت من فوهة العددية، و من الملاحظ ظهور التعب الذهني، و ما يشكله من مقاومة و تضحية في سبيل خلق عالم محسوب على التعب النفسي العصابي ، حتى نصل للقرنين التاسع عشر والعشرين ، و هما اللذان مثلا خلاصة جهد الإنسان في مسيرة التعب وذلك بالتحدي السايكولوجي، فلون التعب الإنساني قد تبلور إلى شكل من أشكال الكشف النفسي، لهذا اطلق على الإنسان الجديد الذي يعيش في كنف هذين القرنين بالإنسان المأساوي، رغم مظاهر الرفاهية و التطور المادي الذي اختزلت منازل التعب إلى أن تصبح هوية الإنسان تحددها مفاعيل الرفاهية ، لكن فيغاريلو المؤلف المتخصص في مشاغل الجسد طل معتكفا على إيصال فكرة مفادها إن تاريخ التعب لا ينتهي او يسكت خطابه المتجدد بل يعاني من إندياح دائم في حمل الإنسان مشاق التعب و متغيراته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* تاريخ التعب من العصر الوسيط إلى أيامنا هذه جورج فيغاريلو ترجمة محمد نعيم الناشر صفحة سبعة ط1 2023