اخر الاخبار

نتناول في هذه الدراسة النقدية أربعة نصوص في القصة القصيرة لأربع كاتبات عكست كل قصة نوعا من الاختلاف والخصوصية في التعبير عن الوجع الاجتماعي  والإنساني والأنوثة المستلبة في ظل واقع مأزوم وملتبس. وهن على التوالي :

1-الخوافات لا نعام كجه جي

2-غيبة لميسلون هادي

3-  ظلال هائمة لولام العطار   

٤- خواء لزهراء ناجي          

وقبل الشروع بهذه الدراسة نكشف عن توظيفنا واستخدامنا لمصطلح السرد النسوي  الذي يبدو مصطلحات قلقاً وفضفاضاً حيث يستخدم على وفق توجه وتعريف اجرائي أكثر منه مصطلحاً موضوعيا ودالا  فالادب أوسع من أن يقسم الى تصنيفات وخانات وتمركزات تعكس رؤية قاصرة لمفهوم الأدب الانساني بوصفة رؤية كلية لاتتجزأ محور الأنسان وهمومه وتطلعاته وليس مجرد استقصاء لزوايا وتقسيمات توحي بنوع من التأثير الشكلي والهامشي، فالادب لاينتمي الى الهويات الفرعية والخطاب المتضخم الفرعي .

والمقاربة الاخرى ترتبط بطبيعة وخصائص كل نص من النصوص الأربعة التي تمثل تجارب مختلفة على مستوى المضمون أو الثيمة القصصية بالإضافة إلى    اختلاف  الكاتبات من حيث المجايلة فهي  تجارب من أجيال مختلفة تكشف عن نوع من الاختلاف في الأسلوب  والفكرة والتقنيات والمنظور الجمالي والفكري.

ولاتنعدم كليا عوامل المشترك والمؤتلف بينها من حيث الاشتباك مع تجليات الوجع والاستلاب ومن زوايا متباينة وأختيار  كل كاتبة لبؤرة عبرت بها عن هذه المشتركات  .

وتمثل قصة (الخوافات) توجهاً للكشف عن هموم وفوبيا الخوف والرهاب والتطير الذي يسكن على سبع شقيقات كل واحدة  يتقاسمها الخوف الفادح من قوة أستلابية تحيل أنوثتها الى خراب وقلق وضياع وتحيلها الى كائن مهزوم  ومستلب يجتر مخاوفة نتيجة القمع الذي يهيمن عليه من خلال القمع الاجتماعي والذكوري ويتحول إلى فوبيا مهيمنة ويكشف العنوان عن سيميائية  هذه الدلالة فالخوافات سجينات لخوف داخلي راسخ ومقيم فضلاً عن دلالة الرقم (٧)  ومايعكسه من رمزية منتجة لمعنى الانفراد والعزلة والهيمنة بوصفه  رقما فرديا ويعكس المقطع السردي الآتي هذا الأستهلال  الكاشف:

(نحن سبع شقيقات كلنا خوافات ،أختي عاتكة كبرانا تخاف السرطان الذي التهم ثديها الأيمن فاستعاضت عنه بقطعة من البلاستيك، تدسٌها في صدريتها كل صباح فيعتدل مظهرها.وفي الليل تطفيٌ أختي نور غرفتها قبل أن تخلع ملابسها ثم ،وكمن يكش عنه عقربا سامة ،تخلع الثدي الكاذب وترميه في عتمة خزانة الثياب ،محاذرة ان تنظر اليه ،تعيش عاتكة خوفا مستمرا من أن يمتد السرطان إلى ثديها الأيسر وبطنها وحنجرتها ورحمها وبقية أجزاء جسدها )

وتكشف القصة عن طبيعة كل خوف لكل شقيقة وكأنه أقتسام قدري  واستلابي، فعفاف تخاف من زوجها ومن تجريحه المستمر،ولاسيما بعد أن أكتشف علاقة قديمة لها :((عفاف تخاف من زوجها .من تجريحه المستمر لها لأنها أحبت قبله زميللاًلها في الجامعة ،سافر ال  هولندا لإكمال دراسته ولم يعد )).

أما عاطفة  (( فليس لها زوج تخاف  منه لكنها تخشى الزمن تضع وجهها في وجه المرأة   ساعات طوال )) حتى أنها  تخشى  أو تتطير من حفلات عيد الميلاد .

 فشكل الخوف من الزمن قوة استلابية لها.

أما  الشقيقة وصال فانها مصابة بالخوف  والذعر من مديرها في العمل وهذا يعكس الهيمنة الذكورية والاجتماعية  مع أنها  أنتمت  الى الحزب لكي تتخلص من ضغوطاته  وهي إشارة للاستلاب  والهيمنة السياسية المتسلطة .

أما منال فتخاف على خطيبها وهو ابن عمها فقد أخذته الحرب الى المجهول  وظلت تخاف أن تختطفه وحشيتها وهي تتبع  أخبار القتلى والشهداء ويجسد خوفها الفوبيا من الحرب 

أما الأخت الأجرأ  فهي منى فهي لا تخاف  الا من ذاتها الجامحة ونزواتها العنيفة  مما يقودها الى الدمار وبهذا فهي تعاني تآكلا  داخليا .

وتأتي الأخت السابعة وهي الساردة المتماثلة  حكائيا بحسب تصنيف جيرار جنيت حول السارد المشارك  في السرد فهي تعاني فوبيا  أو خوفا من مجموعة من مدرائها رئيس الشعبة والقسم والمدير والتطير من اسئلة ارتيابية حول الزوج والانتماء السياسي ،وبهذه الأجواء  تصنف لنا القصة انواع الخوف والرهاب الذي يهيمن على الذات الأنثوية ويحيلها الى كائن هش ومستلب ولاسباب متعددة ومتباينة.

أما قصة ميسلون هادي الموسومة  (غيبة) فهي تتناول حياة امرأة تحمل هذا الاسم وهي (( عجوز ناحلة لا ترتدي لونا زاهيا ولا تشتري ثوبا تطير حوله الفراشات )).وهي كائن أنثوي مستلب بسبب الخوف الداخلي لمنع حدوث اي طارئ حتى يتحول هذا الشعور الى رهاب داخلي فهي تخاف من كل شيء وتتطير من التفاؤل والأمنيات وليس على  لسانها سوى مفردة (لا)  ورفض  كل جديد متقوقعة  حول ذاتها وقد تحولت إلى عانس واصبحت مثل شجرة ذاوية  تومن بالزوال والعدمية  مما يحيلها الى استلاب داخلي وتشاؤم من كل شيء فهي منزوعة الوجود قلقة مهزومة من الداخل وهو نوع من التصلب الذاتي يجعلها في عزلة من الحياة وتصبح متناغمة مع أسمها وهي تعيش في غياب دائم .ولعل أبرز دلالات الانسحاب من الحياة هو رفضها الزواج  لتعمق حالة العزلة والخواء والإصرار على الانتكاس الداخلي وموت الأمنيات  والأمل وهي تعكس نضوب الروح والجسد وغياب الحلمية باتجاه الانغلاق  والانسحاب  وتصبح كائنا معزولا خاويا يعكس نوعا من الخراب والتصلب الذاتي وموت روح الأنثى وهي تجتر أحزانها وخوفها من المجهول وبهذا تكشف القصة عن أنوثة محملة بالقهر والقمع وعدم التفاعل مع الواقع الاجتماعي  والتناقض  الصارخ بين الذات  الأخر.

ويمكن الأستدلال بهذا المقطع السردي الدال لهذا التوجس والتآكل الداخلي لبطولة القصة.

((ذات عيد سألنا بعضنا البعض : ماهو السر في كلمة (لا) التي تكررها خالتنا غيبة دائما  .. أتفعل ذلك لأنها  لم تتزوج  أو تسافر أو تتنزه في حياتها ؟ قالت  غيبة :

كلا ليس هذا هو السبب ،لانعرف حقا كيف سمعتنا ونحن نتحدث بصوت خفيف فتجرأنا واعدنا سؤالنا بصيغة أخرى ماقصتك  ياخالة  غيبة لماذا تقولين (لا) على كل شيء  نفعله في هذه الحياة .....لماذا ...فعلا ..صمتت غيبة طويلا ،فتحركت ستارة النافذة ،ثم اشتدت حركة  الريح  وتساقطت أوراق الأشجار كلها على الأرض))

وتمثل قصة "ظلال هائمة" توجها مختلفا عن القصتين بدءا من سيميائية عنوانها الشعري المتناغم والمتضافر  مع المعنى  أو الرسالة  التي تنطوي عليها القصة وتتناول موضوع  الأيمان بالحقيقة والمسار الذي يجب على الذات الأنثوية ان تتمسك به وتحوله الى مساحة وبؤرة للقوة والتماسك والسير في الحياة القائمة  على استلهام القوة والتفاؤل وعدم الأنتظار غير المجدي والأمساك  بقوة التدفق وبسالة وجمالية الحلم

كل هذه التوجيهات تعكس نوعا من الظلال الشاعرية التي ينبغي على الذات المتكسرة أن تتماهى معها وهذا المضمون الإنساني  يعكس قدرة الانوثة  المقهورة على ان تستعيد توهجها الداخلي وتتعامل مع الحياة والواقع بهذه الومضة الداخلية المشعة .وان تحول الخوف الى ثبات وتماسك وقد انتابها في البدء الخوف أو الفوبيا من فتح الرسالة التي تركها لها جدها معلم الملك ،لكنها انتصرت على خوفها وترددها واحباطها وامتدت يدها الى الرسالة  بعد انتظار وخوف .

(( همست لنفسها ، لكن السؤال لا يحتاج  الى أجابة ، الصوت الذي يهمس في رأسها كل ليلة تعرفه جيدا حيث فتحت الظرف ،لم تجد سوى سطر واحد كتب في عتمة أو في لحظة بكاء -حين تهرب من ظلك ،لاتنسى انه يعرف الطريق إليك...حاذر أهمال وجوده أو الأيمان بسواه ...ارتجف قلبها تذكرت تلك الليلة التي هربت بها من مدينتها وحبه ، ظانه ان السفر إلى مدينة  لا تعرف عنها شيئا يكفي لمحو حكاية أذكى من النسيان تبعها ظلها أينما اتجهت بصمت مريب ،فتحت النافذة فاندفعت نسمة ثلجية باردة ،مصحوبة برائحة تراب مبلل)).

لقد عكست القصة نوعا من ضرورة النظر الى الحياة والهموم بمنظور الأيمان واستلهام البواعث الجميلة والأحلام التي بمقدورها هزيمة التردد والخوف والتوجس.

أن استثمار  الخوف الايجابي والذي يوصل الذات الأنثوية المنكسرة والمترددة الى بوابة الفعل التواصلي الحقيقي مع الظلال التي لم تعد هائمة بوجود الحقيقة التي نصنعها وهي تقترب من رجل يمثل لها نوعا من الظلال الجميل أذ تقول ((كل ما فيها ينازعها: خوف قديم يسحبها الى الوراء حنين جارف يدفعها بخطوات خفية الى أمام، تذكرت أخر  نظرة تبادلاها عند محطة القطار ،يوم أدار وجهه عنها دون تلويحة وداع تحمل في حقيبتها قراراتها  الجازمة ،وألا تغفر ....لم تفهم ان الغفران ليس هدية نمنحها للآخرين  ،بل الهواء الوحيد الذي نتنفسه  لنواصل الحياة)).

وبذلك تعبر القصة عن قوة الأختيار وفهم مجريات الواقع وجعل الغفران  نوعا من التجاوز لتحقيق الذات والتماثل مع الآخر وهي دعوة لعدم التصلب  الذاتي واجترار الخوف والتردد وإيجاد  مسافة للعودة الحياة وكما نرى أنها أختلفت  في الفكرة  والمعالجة عن القصتين انفتي الذكر بالانتماء  الى الحل الشاعري ولذلك جاءت لغة القصة  بصيغة المفردات وهيمنة النسق الشعري لتتكامل الفكرة مع الأداء  الجمالي والتعبيري

   ونلاحظ أن بهذه الخصائص وطبيعة الاشتغال تأطر السرد بالمنحى والصياغة الرمزية وأصبحت القصة تنتمي الى شعرية الترميز وعلى شكل فسحة من التفاؤل والأستجابة  للذات الأنثوية وهي تغادر خوفها وترددها الداخلي الذي ألتصق بالعزلة والتصلب ويحيلها الى كائن سآلف معزول متوقف عن النضوب والتدفق،

ان الشعرية هنا لم تجعل الساردة  أحداث قصتها  كبيرة أو عمودية لأنها  أكتشفت بهذا الأنثيال  (افقي)الشاعري وصوغ الفكرة على ضوء هذا الفهم المرن للحياة وصنع الموقف والمبادرة الى التوق وليس الانغلاق  على الذات وبما يجعلها في ذروة المواجهة وفي عمق حركة الحياة من خلال استنهاض  التوق  الداخلي وأختيار  شعرية الموقف للتخلص من  أعباء التأزم  بكل صوره وتداعياته ،وتأسيس  لعلاقة انتماء مع الأخر التي تقوم على ادراك المشترك فتحقيق الذات لايتم  الأ عبر  الآخر التي تقوم على التي تقوم على إدراك المشترك فتحقيق الذات لايتم الا عبر المبادرة والتوجه اليه لردم المسافه أو الهوة بين الذات والأخر وكسر صلابة التوقع الداخلي الذي يومي بنوع من النرجسية والفهم  الاحادي ،أنها قصة تدعو الى تفعيل الذات باتجاه الحل المتوازن للتخلص من التوازن المفقود .

وأذا كانت قصة "الخوافات" قد وظفت البعد السايكولوجي في بناء القصة واستعراض الخوف الداخلي والفوبيا  للاخوات السبع فإن قصة "غيبة" قد أستعرضت واستلمت أزمة الذات الأنثوية وفق التأزم الاجتماعي  والشعور الحاد بالوحدة أما ولام العطار فصاغت قصتها وفق اشتغال شعري ورمزي مما يعكس الاختلاف  والتباين في معالجة ومقاربة أزمة الذات الأنثوية والقمع والاستلاب والقهر الذي يحاصرها. 

أما قصة "خواء" للقاصة زهراء ناجي  فأنها تنحو منحى بعيدا كل البعد عن المعالجة النفسية أو  الواقعية  والرمزية باتجاه توظيف النسق الفانتازي والسرد العجائبي وهي تتصدى لهم أنساني وليس للذات الأنثوية  فحسب وانما تصنع مفارقة فانتازيا  وهي تسرد قصة أنسان فقد راسه في حالة إعدام جماعي وآخر فقد راسه في حادث سير مما يجعل الأخير يستعير الراس المعدوم بعد أن بقي زمناً يستخدم رأسا بلاستيكيا ولعبة تبادل الرؤوس التي تعكس اشتغالا فانتازيا  يكشف عن الوحشية والقبح وأساليب التسلط والموت بسبب الاستبداد والقهر ومحو الأخر واستهداف الجسد بوصفه المعنى الحياتي والرمزي للكينونة الإنسانية والذي يحيل الانسان الى ذات متشظية  متقطعة والى خواء مدو ونهاية تراجيدية.

ان قصة (خواء) تقرن تراجيديا الأسى ونزعه عن الجسد في متلازمة الحرب والقتل الجماعي وهي بذلك تدين الحرب والاستبداد السلطوي اللذين يسعيان الى استهداف الجسد والرأس وفصل كل منهما عن الآخر لتحقيق الموت والخواء والصمت الوحشي.

وقد عبر الاستهلال عن هذه الدلالات بدقة الوصف وعمق الدلالة والدخول الفانتازي  السريع :(( قبل أن يخلد الى النوم، خلع راسه من بين كتفيه ووضعه تحت الوسادة ،فقد تعود على ذلك منذ أن فقد راسه في إعدام جماعي وهو وسط أشلاء القتلى في حفرة عميقة ،عرف فيما بعد أن لصا عبث في الأجساد، بحثاً عن شيء ثمين يسرقه فلم يجد غير أدمغة مهشمة ،وراس واحد بدت ملامحه كاملة ،اخذه وباعه لرجل عاد من للحرب بلا رأس  ..الراس الجديد ليس على قياسه تماما فهو رجل أضخم منه مات في حادث سير ، وجده وسط المقابر حين ينبش السحرة التراب لتتلقف ايديهم من فنون الشعوذة في جماجم داخلها أرواح الجن..)).

وبذلك أصبح الاختلال علامة لهذا التركيب الجديد بين الجسد والرأس وبهذه التوليفة الفانتازية (أن تعيش برأس غيرك ) وهي صورة تحمل الكثير من الغرابة الاستفزازية  رديفا دلاليا لمعنى المراد من تجسيد وحشية الحروب والقتل الجماعي الذي يغتال جسد وروح الأنسان ويحيله الى خواء وعدمية مقيتة  .

اننا نلمس هذا في هذا المقطع السردي: الغريب انه كلما مشى في طريق وجد جسده يتجه الى ناحيته ،بينما الرأس يتجه دوما الى الناحية التي يوجد فيها قبر صاحب الجثة مما دفعه الى ان يفقأ  عينة حتى تنتهي معاناته ،فلا  يتيه بين الاتجاهات المتراكمة))

لقد حققت القصة اختلافها عن القصص الثلاث السابقة بتوظيفها النسق الفانتازي وتقديم بشاعة القتل والحروب . وقدمت وصفا كابوسيا  لتحقيق الاستفزاز وتصوير القبح الذي يهيمن على الحياة جراء فعل الحروب والاستبداد والموت الذي يمسخ الأنسان وجسده وعقله ويجعله صورة مسوخية تقتل معنى الانسجام والتناغم وتكشف عن اختلال وشرخ وانكسار لمعنى الكينونة الانسانية ومحو الجمال والقوة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أستاذة في كلية التربية  / الجامعة المستنصرية