اخر الاخبار

الحساسية العالية التي يتمتع بها كثير من الأدباء ليست مجرد صفة، بل هي طريقة معيشة تجعلهم أكثر عرضة للألم النفسي. فالأديب غالباً ما يرى التفاصيل الصغيرة ويشعر بتقلبات العالم بحدة أكبر مما يفعل الناس العاديون. هذه القدرة على الالتقاط الداخلي قد تمنحه إبداعاً مميزاً، لكنها في المقابل تضعه في مواجهة دائمة مع ذاته، ومع توقعات المجتمع الذي يريده ثابتاً، قوياً، ملهماً، بلا ضعف ولا انهيار. تجارب الانتحار أو محاولاته عند بعض الأدباء ليست ناتجة عن لحظة اندفاع، بل عن مسار طويل من الضغط النفسي والقلق الداخلي. سيلفيا بلاث مثال على ذلك؛ كانت تعيش صراعاً مستمراً بين رغبتها في التعبير وإحساسها الثقيل بالعزلة. إرنست همنغواي، رغم صورته الصلبة التي يعرفها العالم، كان يشعر بضعف داخلي كبير، وتراكمات نفسية لم يعد قادراً على احتمالها. ستيفان زفايغ فقد ثقته بالعالم حين رأى الحرب تشوّه ما كان يؤمن به، ومع تفاقم إحساسه بالاغتراب قرر إنهاء حياته. فيرجينيا وولف بدورها عاشت حالة من الاضطراب النفسي جعلتها غير قادرة على التعايش مع ضجيج أفكارها. في العالم العربي، خليل حاوي من الشخصيات التي انهارت تحت ثقل الإحساس العميق بالخيبة والضغوط التاريخية والسياسية. أما مي زيادة فلم تنتحر لكنها حاولت ذلك أكثر من مرة، تحت وطأة الوحدة والاكتئاب والخذلان. هذه الأمثلة تكشف أن المثالية التي نضعها على اكتاف المبدعين لا تتوافق مع طبيعتهم الإنسانية. إنهم ليسوا نماذج مكتملة، بل أشخاص يعيشون بصعوبة أحياناً، ويحاولون أن يقدّموا للعالم شيئاً رغم هشاشتهم. السؤال الذي يبقى حاضراً: إلى أي حد نستمر في مطالبة الأدباء بأن يكونوا قدوة مثالية؟ وإلى متى نتوقع منهم تجاوز الألم دون أن نسأل عن معاناتهم؟ المجتمع كثيراً ما يتعامل مع المبدع كأنه مصدر إلهام دائم، بينما هو في الحقيقة إنسان قد يتعب، ينهار، ويصل في مرحلة معيّنة إلى نقطة لا يجد فيها دعماً أو فهماً كافياً. إن فهم دوافع انتحار بعض الأدباء يبدأ من الاعتراف بأن الحساسية العالية ليست ضعفاً، لكنها قد تتحوّل في ظروف معينة إلى عبء كبير. والمطلوب منّا ليس أن نحاكمهم، بل أن نتوقف عن النظر إليهم وكأنهم مطالبون دائماً بالثبات، وأن نتفهّم أن وراء النصوص والأعمال أشخاصاً يعانون أحياناً أكثر مما يُظهرون.