في خريفٍ بعيد، تحدّثنا، أنا ومحمود عبد الوهاب، ماشيينِ بعد الظهيرة تحت ظلال الأشجار، في شارع بمنطقة المسبح ببغداد؛ وناقشنا أموراً شتّى محورُها الاقتران النفعي بين الثقافة والسلطة: ما حدود الانتفاع بمغانم سلطةٍ راعية للأدب (سلطة نهاية القرن العشرين)؟ ما الشيء الذي تبدّل من عهد إلى عهد في هذا الشأن؟ أيتاح لنا وقت نستقطعه من غفلة السلطة عن نزهتنا؟ وإذا كنا تحت رقابتها، فما مقدار ما نملك من خطى موزونة، تُبعدنا قليلاً أو كثيراً عن الهواجس والوشايات التي تُحكِم طوقَها حول الأعناق؟ أيكترث أحد غيرها بما نهجس نحن بثقله وقيوده؟ وكم نحتاج من جرأة للجوء إلى التزامات طبيعتنا البيضاء... وغير هذا من التداولات غير المسجّلة، بل المنفرطة في فضاء السلطة الراعية في الخفاء؟
سِرنا في الشارع الهادئ، بطرف بغداد، وتاقَ محمود لشُربةٍ يختلِسُها من قنّينة_ رُبعيّةٍ يخفيها للطوارئ في حقيبة يده الصغيرة، مجهولة المحتوى. عزَّ عليه الشّراب في مكان مستقرّ، مع صَحبٍ أسوياء، هادئين متعاطفين، فاضطُرّ للشُّرب وهو ماشٍ حذِر، مع صاحبٍ تصامَّ عن صبواته، وتغافل عن خلساته.. وتَعساً للاضطرار الذي شابَ ذيولَ عمره! أكنّا أحراراً في أن نُتمِّ جولتَنا النهاريّة دون رقيب؟ ما الذي يشوب هدوء تلك النزهة غير الحَذَر وامتقاع الوقت؟
لكن ما هو أكثر عمقاً في طبيعة محمود البيضاء_ حياتِهِ المحمولة في حقيبةٍ يدويّة_ توقه الدائم لرغيفٍ محمَّص يخرج حالاً من تنّور مخبز_ ذلك الالتزام الطبيعي تجاه جسده المبذول للعيون المتطفّلة. سِرنا_ راجعينِ أعواماً للوراء بعيداً عن زمن الشارع المشجَّر في "المسبح"_ فتذكّرنا مرورَنا بمخبز في دربٍ مقفر بضاحية في البصرة، حين أشار محمود بالتوقّف لابتياع رغيف خُبز.. عجباً، كيف اختفى عن الأنظار مخبزٌ في هذه الأنحاء، وكأنّه في انتظار شخصٍ ماشٍ نحو رغيفه، وقُل نحو حتفِ طبيعتهِ، بلا خوف أو خفاء! التّوقُ الهائل للرغيف جزءٌ من سِيرة بطلٍ من ذلك الزمان، سيرةٍ بحجم الكفّ مخبأةٍ في صفحاتٍ من دفتر مدرسيّ صغير علاها الاصفرار. مزجَت السّيرةُ بين جوعٍ طفوليّ، وعلاقةٍ أبويّة غير مكتملة، ونكوصٍ نحو جسد الأمّ المُسجّى على سرير الموت، ببيتٍ في محلة "السَّيمر". وتساوَت في تلك السّيرة، رحلةٌ بالقطار الصاعد مع وقفة مجموعة أصدقاء على جسر نهر "العشّار" تحت برج ساعة "سُورين". لكنّي أقول: ما من شيء مخبوء في سِيرة الرغيف الماضية إلا ونطَّ برأسه غازياً نقاشات نزهتنا في شارع "المسبح"؛ داهماً طمأنينتنا_ أحقاً تفرّق معظم أولئك الواقفين على جسر العشّار؟ سِرنا، راجعينِ داخل تلك السّيرة، كأنّنا نطوي الرُّبعَ الأخير من شارع رابط بين ساحة "أمّ البُروم" ومقهى الأدباء في زقاق بمحلة "البجّاري" بالعشّار_ وقد طويناه حتى أواخر القرن (السِّيرة من السَّيْر، لا غير). وأظنّنا سِرنا ما يعادل سَيْرَ محمود من المستشفى التعليمي بزاوية نهر "الخورة" حتى المقبرة في "الزّبير". أو ما يعادل سَيْرَه من نهاية الدنيا إلى بداية الآخرة. وعادةً ما يختزن محمود طُرفةً يُبديها خلال المسير _ أقصد مسيره نحو آخرته! (خلال المسير، خطفت بذهني ذكرى زيارتي لسعدي يوسف في عمله في مجلة "التراث الشعبي"، مُبعَداً من عمله في ديوان وزارة الثقافة بمبناها السابق على محيط ساحة التحرير. يومذاك، بادرتُ الشاعرَ البصريّ ببيت طَرَفة بن العبد: "لخولةَ أطلالٌ ببُرقةِ ثَهمدِ_ تلوحُ كباقي الوشمِ في ظاهر ِاليدِ".
ولم يُدهَش سعدي لمبادرتي، فلعلّه استخفَّ بمغزى هذه المبادرة، أو لأنّه استسلمَ لهذا المغزى على حياء. ويا لسُخْف هذه الزيارة! زائر شابّ، يتفلسف بما لا يفقه من شِعر الأقدمين، فما أدراه بفلسفة الطَّرد والإقصاء التي يداريها سِرّاً شاعرٌ من المتأخّرين!).
ومِثلُ سعدي، فإنّ محموداً_ ونحن سائرانِ_ تجاهلَ ملاحظاتي عن المعلّقات الشّعرية القديمة، فيما كنت ألومُه على تقصيره في التوصية بضمّ القصائد السّبع، أو العَشر، إلى مناهج تدريس اللغة العربية لطلاب الثانويّات_ أيام كان مُشرفاً تربوياً اختصاصيّاً. غير أنّي تذكّرت قوله في درب المخبز بالبصرة_ وهو يقضم حافّة الرّغيف_ عن نصّ كتبتُه في الباب الأول من "حدائق الوجوه" عنوانه "نزف الرغيف": هائل، لو توسّعتَ فقط بهذا الباب كما توسّع محمد شكري في عنوانه: "الخبز الحافي"! ناقش قصدي الاستعاري للعنوان، بدلالته على حياة منتزعة من فم الحرب والجوع والتشرّد، فأوضحتُ له اختلاف المصدرين، فيما ألحَّ قاضمُ الرّغيف على وحدة الأضداد، أو اجتماع الأصقاع... وكثيراً ما كان يحتجّ بهما ويكرّر احتجاجه في أحاديثه!
تذكّرتُ_ حينئذٍ_ زيارتي لسعدي يوسف في المجلّة، فأخبرتُه عن بيت الشعر القديم حول "أطلال خولة"، أتلتقي الذكريات المتباعدة كما تلتقي الرُّغفان على بُعدِ الأصقاع في لحظتنا الراهنة؟ يوافقُني محمود على ظنّي، ويروي لي عن حادثة حقيقية جمعتْه بسعدي يوسف خلال احتجازهما في مخفر شرطة، بعد انقلاب ١٩٦٣: "كم كان اشتهاء سعدي شديداً لدجاجة مشويّة يأتي بها الشّرطيّون من مطعم قريب!".
(حرّفتُ كثيراً حادثةَ زيارتي اليتيمة تلك للمجلة، حين رويتُ عن حُلمِ لقائي بسعدي في مكان قريب من مقبرة_ في كتابي: أحلام باصورا).
وأحوّل كلاميْ_ ماشيينِ_ نحو وفاة صديقٍ لمحمود حميم_ بحسب علاقة "الرُّبعية" المخبّأة في حقيبة اليد_ هو عبد الخالق محمود. تصوّرتُ شاعرَ الظلّ هذا جالساً في "حانة الأقدار" الملاصقة مقبرةً، تتناوح فيها أبياتُ زهير ولبيد وأشباههما ممّن سئموا "الثمانينَ" وتكاليفَها، وأعرّج في أثر أولئك على بيت الحارث بن حلّزة: "آذَنتْنا بِبَيْنِها أسماءُ_ رُبَّ ثاوٍ يُمَّل منه الثَّواءُ".
لم يستخِفّ محمود بهذا العروج منّي_ عكس سعدي الذي تجاهل بيت طَرَفة السالف_ بل تندَّت عيناه بطبقة قنوطِ مَن بلغَ الثمانين، ولم يحقّق اختلاساً لأمنياته الكثيرة! قال: "لو تعلم، فتلك الحانة المقابلة للمقبرة كنايةٌ كبرى عن ظمأ الشاعر الأبديّ، فهو يرحل من دون كأسٍ ملأى على وجه الحقيقة لا المجاز!" هكذا أسير، وحدي، حتى أبلغ تداعي الذكرى الأخير مع قاضم الرّغيف: أيُّ حياةٍ تلك التي يحبِسُها قفصُ حديدٍ، على مبعدة شارعٍ من "حانة الأقدار"! أ
ين يكمن الاستدراكُ الخافي في مثل هذه التداعيات، يا ترى؟
أليسَ سُخفاً ما نختلِسُه من خصوصيّات الموتى؟
دعهم يرقدوا بسلام، إذن، في قبورهم!
دع كِرشة الموت تبتلع المزيد!