اخر الاخبار

في الذكرى الخمسين لرحيل مخرج الواقعية الجديد وشاعر الجسد باولو بازوليني تُثار كثير من الأسئلة التي تعنى فكرة استعادته، أو بفكرة الحديث عن علاقته بالاختلاف الثقافي، وبهوية النص والفيلم اللذين جعلا من واقعيته مدخلا لوعي فلسفي وسياسي، ولرؤيا مفارقة تتجاوز عقدة التاريخ الى السرد، فجعل من التلازم ما بين النص السينمائي والنص الشعري مدخلا للحديث عن واقعية تقدمية/ نقدية، سلّطت الضوء على إشكاليات صراعية، طبقية وثقافية، وعلى مفاهيم نقدية، بدت إشكالية في اطروحاتها، وفي مواقفها، حول ازمة الذات الثقافية وسط توحش الرأسمالية وعنفها الثقافي، وحول قضية الافكار التي بدت مكشوفة إزاء واقع مأزوم، وإزاء جيل جديد وجد نفسه عالم يتمزق بين واقع سياسي تتغول فيه وحشية الاستهلاك، وبين حلم جمالي يدفعه الى البحث عن ذاته، وعن لغته البصرية التي بدت شعرية، وهي تعالج قضايا الانسان، فبقدر ما تبدو شخصياته السينمائية واقعية جدا، الا أنها كانت تختزن خوفا وقلقا، واحساسا بالوحدة التي تحولت الى عنف داخلي، والى شغف يحضر فيها الألم بوصفه تطهيرا، والجنس بوصفه تعويضا، وتمثيلا رمزيا لأزمة المثقف اليساري، مثقف الهامش الثوري.

شعرية بازوليني ليست وثيقة بقدر ما هي موقف، أو رؤية ثقافية جعلها تكشف عن شعرية لم تغادرها تشكلات الهواجس البصرية، ولا حساسية الرائي الذي يتمرد على الواقع، فكتب القصيدة والنص السينمائي وكأنه يكتب شهادته الشخصية، أو يُعلن موقفه، أو يحدس برؤياه التي استشراف من خلالها عالما يحلم به، عالم جعله يشاطر  القارىء والمشاهد مساحة ضافية من التأمل، حيث الجمال، وحيث الإحساس بأن اللغة ليست حيادية، وأنها غير بريئة، لأنها ستكشف عن الذات الإنسوية، بكل ما تحمله من ارتياب وحلم، ولعل ما أثير حول كتابه الشعري الأخير "ارتقاء وتنظيم" الصادر عام 1971 كشف عن تلك الهواجس، فبازوليني يكتب وكأنه يرى، ويضع جملته الشعرية بمستوى جملته السينمائية، فهو لم يغادر الواقعية بحسيتها، ولا بتمثيلها العميق للحياة، وبالتعبير عنها، أو التفكير بها بصوت عال، وربما بخصوصية من يريد أن يكتب سيرته، أو نشيده الخاص، أو أن يكشف عبر عين الكاميرا، أو عين اللغة  العالم الذي يواجهه، عاشقا وحالما وباحثا حرا عن ذاته.

حياة بازوليني المعقدة والغريبة، تحولت الى تراجيديا ثقافية، والى سيرة سوداوية، فبقطع النظر عن صراحته في التعبير عنها، والدخول في تفاصيلها، فإنه كان حريصا على أن يعيش حريته، وأن يمارس حقه في الحب، وفي الغضب، وأن يجعل من واقعيته جزءا من تلك الحياة، بكل تحمله من تمردات ومفارقات، ومن تناقضات قادته الى ما يشبه الجحيم الدانتوي، حيث الكشف عن الألم، وعن الموت بطريقة أكثر غرائبية.

حياته لم تكن بعيدة عن علاقاته، وعن الغموض الذي اكتنفها، حيث عاش علاقات مثيرة، بدت وكأنها تعكس واقعيته السينمائية الصاخبة، إذ حفلت علاقته مع المغنية المشهورة ماريا كالاس بكثير من النقائض، والامزجة الساخنة، فهي تشبهه بالغرائبية، مثلما كانت علاقته بالشاعر نينيتو دافولي الذي عاش هو الاخر حياة صعبة في نزقها وبوهميتها، حتى بدت هذه العلاقات وكأنها حياة موازية غامرة بالصخب، الذي يشبه اصواته الداخلية التي سحبته الى ما يشبه الصوفية، والسخرية، حتى من الواقع ذاته، إذ غشيت اللغة تمثلات بصرية، مثلما تغشّت الجملة السينمائية باستعارات شعرية، جعلت منه يعيشها وكأنها القناع الأسطوري لحياته، أو لوعيه الثوري الذي ظل يساكنه بالاحتجاج والتمرد البحث عن الحرية التي ظل يعشقها، مثلما كان ضحية أحلامه التي جعلته يحمل "وعيه الشقي" وعي البطل الغرامشي الذي يدرك أهمية تمثيل خطاب " المثقف العضوي" الذي جعل من خطابه الثقافي مشروعا جماليا وثوريا، تتسع فيه أحلام البطل الشيوعي الذي وجد نفسه إزاء عالم غامر بحروب باردة وساخنة، وبصراعات لا حدود لها، لم يجد سوى رؤيته الشعرية وعينه السينمائية لكي يمارس احتجاج، ولكي يدون حضوره، ويضع جسده وسط الجحيم وكأنه يستعيد قناع دانتي الليجيري، أو قناع كالفينو الباحث عن مدنه الاسطورية..