في أيلول 1973، وما إن انتشر خبر استشهاد سلفادور أليندي، الرئيس الشرعي لتشيلي، على يد المخابرات الأمريكية وجرذها الدموي بينوشيه، حتى اجتاحت العراق حملة تضامن رائعة، أحضرت تلك البلاد البعيدة إلى مقاهينا وبيوتنا، وجعلت مفردات مثل "سانتياغو"، وأسماء كـ "فيكتور جارا"، و"نيرودا"، و"كورفالان"، أليفة للعراقيين، وعزيزة على قلوبهم، رغم أنهم لم يكونوا قد سمعوا بها من قبل. لم تمضِ سوى فترة قصيرة حتى اعتقلت الحكومة الفاشية في الأوروغواي القائدَ الشيوعي رودني أرسميندي، فتكرّر تضامننا لإنقاذه. وأذكر حينها أن أعزّ رفاقي تصوّر، جادًّا أو مازحًا، وجود علاقة قربى بين أليندي وأرسميندي، فقال بحزن: "عمت عيني، ࢰضّوا بيت الندي!" وقبلها وبعدها، كانت لكل من تتلمذ في مدرسة الشيوعيين عشرات المواقف التضامنية مع الشعوب في كفاحها من أجل التحرر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. وبقي التضامن بالنسبة لهم توأم اليسار، به يتنفس، ويتقدم، وينمو، وينتشر.
ولهذا، قد تبدو غريبةً تلك الدهشة التي أثارها تبنّي الأحزاب الشيوعية واليسارية في العالم، بما فيها الحاكمة، مواقف تضامنية رائعة ضد جرائم الإبادة الجماعية في فلسطين. غير أن ما منح تلك الدهشة طعم الفخر، هو خلوّ تلك المواقف من أي طابع شعبوي أو براغماتي، داخليًا كان أو خارجيًا، وتجسيدها لحدوث تغيير عميق في النضال الأممي، سواء ضد الاستبداد والإرهاب الذي يُمارَس لحمايته، أو لإنهاء سياسات الإفلات من العقاب، وازدواجية المعايير، والتغوّل على القانون والشرعية الدولية. كما جاء تطوّر هذه المواقف ليمثل خلاصاً من خيبات التراجع الذي أعقب وأد التجربة الاشتراكية الأولى، وليؤشر عودة حميدة، ليس فقط للاعتراف بشرعية مقاومة القهر والتمسك بالكفاح من أجل الحقيقة والعدالة، بل وبسريان هذا الاعتراف إلى خارج الحدود الوطنية، مبشّرًا بشروق شمس الأممية من جديد، وباعثًا في نفوس الثوريين الأملَ بنهاية حتمية للعبودية والاستغلال.
ورغم أن المجال أضيق من أن يُلمَّ بالتفاصيل، فلا بدّ من الإشادة بجميع الأحزاب الشيوعية، بكوبا التي قاد رئيسها ميغيل كانيل، وهو يرتدي كوفية فلسطينية وقميصًا يحمل وجه جيفارا، أضخم مظاهرة دعمًا لفلسطين، في ميدان تحيط به صور كارل ماركس، وخوسيه مارتي، ومارتن لوثر كينغ. وكذلك بالمكسيك، التي انضمّت، بقيادة الرئيسة كلوديا شينباوم، إلى جنوب أفريقيا في الشكوى ضد إسرائيل، على ما ترتكبه من إبادة جماعية. وفي تشيلي، التي سبق للموساد ودرّب قتلةَ شعبها، قرر الرئيس اليساري بوريك سحب السفارة من تل أبيب وقطع العلاقات التجارية والعسكرية معها. وفي بوليفيا، الأرض التي استُشهد عليها جيفارا، قرر الاشتراكي لويس آرسي قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل. وكان الموقف الأبرز مؤخرًا هو تبنّي الزعيم الكولومبي اليساري غوستافو بيترو موقفًا حاسمًا ضد تل أبيب؛ فقطع العلاقات معها، وشارك في تأسيس "مجموعة لاهاي"، التي تسعى إلى محاسبة إسرائيل على انتهاكاتها للقانون الدولي.
وفي أوروبا، كان لليسار الحاكم في إسبانيا مواقف مهمة في إدانة إسرائيل، وإيقاف التعاون معها، بل والمشاركة في حملات مقاطعتها وعزلها. وهي ذات المواقف التي تبنّاها حزب اليسار الأوروبي، وحزب "فرنسا الأبية"، واليسار الألماني، وحركة "سيريزا" اليونانية، والتحالف اليساري الحاكم في سلوفينيا، وغيرها. وارتفعت هناك، في الهند وسريلانكا وماليزيا وإندونيسيا وغيرها، أصوات التضامن اليساري، وتواصلت.
وفي الوقت الذي تبدو فيه ساحات اليمين التقليدي والمتطرف، ومنها القصور "العربية"، صامتةً كالقبور أو موالية للقتلة، يتجدد يقيني بالكلمات الأخيرة لأليندي: "سيمضون، وستُفتح من جديد الطرق الواسعة للناس الأحرار. قريبًا، سيأتي اليوم الذي تُشرق فيه شمس العدالة على الشعوب، من جديد."