بعثَ إليَّ صديقٌ، قرأ دعواتي لانتخاب مرشّحي الحزب الشيوعي العراقي، عدداً من الدعايات المضلِّلة التي راح اللصوصُ والفاشلون وحماتهم المستبدّون يروّجون لها، في سعيٍ واهمٍ للإضرار بمكانة الشيوعيين في ضمائر الناس، و"نصحني" بأن أتجنّب هذا الطريق، فهو صعبٌ وموحشٌ لقِلّة سالكيه.
وبما أنّي اعتدتُ أن أقدِّم حسنَ النيّة على سوئها، وأحمل صديقي هذا على سبعين محملاً من الخير، اكتفيتُ في الردّ عليه بمقولةٍ لسفيان الثوري، كان يطرب معي لسماعها، أيّامَ كنا نقف على ضفّةٍ واحدة، "من استهان بالظلم كان ظالماً"، وبرفضِ الحلاّج أن يصرِّح بما لا يُبطن، قائلاً لتلميذه "ما كان لي أن أبيع وجهَ الحقّ برضا الظالمين. لقد دعوتُ الناس إلى الحريّة، فكيف أهرب أنا إلى القيود؟" نعم، يا صديقي اللدود:
سأصوّتُ للشيوعيين، فتصويتي لهم ثغرةٌ في جدار الصمت والفساد. إنّه انحيازٌ لأطفالٍ يأكلون من سيارات القمامة التي يعملون على جمعها، وللساكنين في أكواخ العشوائيات، وللشباب العاطل والمهمَّش، وللمرأة التي يُكسِّر "رجل" عظامها عسى أن يستعيد رجولته، ولطفلةٍ تُغتَصب باسم الزواج المبكّر، ولصبيةٍ وصبايا يفتقدون التعليمَ والرعايةَ الصحيّة والمستقبل، لنازحين مشردين بين الألغام، لأهوار تموت ولرافدين يحتضران بعد قرون من الزهو.
سأصوّتُ للشيوعيين، لأنّ عراقيّتي باتت مهدَّدةً من الاستقطابات الطائفية والإثنية والنزاعات العشائرية والولاءات المناطقية؛ لأنّ حلمنا في أن نكون أحراراً، وأن يكون لنا نظامٌ يكفل تداولاً سلميّاً للسلطة، على وشك أن يُوأَد في ظلّ الفوضى، والسلاح المنفلت، والبيروقراطية، والتفاوت الطبقي، واحتكار ثروات الوطن المادية ومنتجات الشعب الروحية، على يدِ أقلّيةٍ فاشلة.
سأصوّتُ للشيوعيين، لأنّهم خيرُ مَن حمى الهوية الوطنية ومنحها ألقَها، حتى بات يقيناً أنّ لا خلاصَ للعراق من الخراب والريبة والقلق والتشظّي إلاّ بتبنّي مشروعهم للتغيير الشامل. فالبديل الذي يمثلونه سيحقّق توزيعاً منصفاً للثروة، ويتيح برامجَ التنمية والخدمات والنتاج المعرفي والإبداعي للجميع، وسيُعالج الاختلالاتِ الهيكليةَ في الاقتصاد الوطني، ويحرّره من التبعية، ويرفع الحيف عن النساء، ويضمن المساواة بين الجنسين.
سأصوّتُ للشيوعيين، لأنّ بلاداً زيَّنت تاريخَها عمارةُ بابل والزقّورات، وأشرقت فيها ملحمةُ جلجامش وفكرةُ إنانا وإنليل، وتجسّدت علومُها في الألواح المسمارية ومدارس إدّوبا، وأنجب شعبُها الأثريَّ والكرملي ومصطفى جمال الدين والسيّاب وكوران والجواهري وزها حديد ونزيهة الدليمي وعبد الجبار عبد الله وجواد سليم ومير صبري ومحمد مكية وزينب وعلي الوردي، تكاد تُقيَّد اليوم بمفاهيم القمع والعبودية واستلاب العقل ومشاعر التعصّب والجمود والعزلة، وتتدهور فيها القيم، وتتكاثر كفطرٍ سامٍّ عصاباتُ التجهيل والفساد، ولصوصٌ يخطفون من عيون أطفالنا بسمةَ الأمان.
سأصوّتُ للشيوعيين لأنّهم يفتحون كُوى رئيسيةً للضوء ببرنامجهم الثقافي للتغيير، الذي ينبع من الإطار الجامع لقيمنا المادية والروحية، ويعيد صياغةَ العلاقات الضرورية بين الفكر والأخلاق والسياسة، ويخلق فرداً ذا قدرةٍ على التحوّل نحو مجتمع الديمقراطية والعدالة.
سأصوّتُ للشيوعيين، لأنّ برنامجهم للتغيير الشامل فرصةٌ ثمينةٌ لتوحيد جهود كلّ القوى الساعية لصناعة بديلٍ حقيقيٍّ لمنظومة المحاصصة، من الحركات المدنية، والنقابات، والناشطين، والشباب، والنساء، والمثقفين، ورجال الدين والفكر المتنوّرين. وهو محطةٌ هامّةٌ في التراكم الكفاحي، تحافظ على شعلة المعارضة الجذرية متّقدةً رغم كلّ العتمة والخراب.
سأصوّتُ للشيوعيين، لأنّهم خيرُ مَن أوقد سنينَ عمره شموعاً تضيء الدربَ للعراقيين، وتعويذةٌ لسلامة وحرّية وطنهم، ولأنّهم لم يُخلِفوا عهداً، حتى باتوا مثلاً لمن يقدّم بعضاً من روحه زاداً للجياع، ويهشم بيديه العاريتين قيودَ المقهورين، ويضمد جراحَ الناس بقطعٍ مطهَّرةٍ من روحه، ويمسح بيدٍ حانية على رؤوسٍ أبتِ الضيم.