اقفلت مساء الثلاثاء صناديق الانتخابات، ومعها أُنسدت قريحة المتنفذين في بثّ الشعارات والصور. تباروا في إطلاق الوعود: هذا يتحدث عن عراقٍ حرّ لا تدخله أمريكا، وذاك يقسم أن لا رهانات خارجية بعد اليوم، وآخرون وعدوا بالخير العميم وبمكافحة الفساد واستعادة الدولة المختطفة. لكن بعضهم ايقظ في حملاته الطائفية والمناطقية، وحرّك غبار الكراهية ليستر عجزه عن تقديم بديل. وحين أُقفلت الصناديق، أُغلقت معها دفاتر الوعود. فمن اعتادوا المتاجرة بالآمال، يعرفون أن الذاكرة تُختزل عند الناس بيوم الاقتراع فقط. بعده يعودون إلى اقتسام الغنائم، وإغلاق موارد العراق في خزائنهم الخاصة، ليطلّوا علينا بعدها بوجوهٍ تكلّست بالوعود القديمة، وكأن شيئاً لم يكن.
المؤشرات الأولية لنتائج الانتخابات تشير إلى أنه لا تغيير جوهرياً قد حدث. فالجوهر واحد لم يتبدّل، إنما تبدّل بعض الأسماء داخل الكتلة نفسها، وتغيّرت الأرقام قليلاً، فزادت مقاعد كتلة هنا، ونقصت بعددها مقاعد تلك، لتبقى المعادلة ذاتها، كما لو أن ما تغيّر ليس سوى ترتيب الكراسي. المحاصصة تبقى إذن تتحكم في تركيبة الحكومة وتوزيع المناصب. وربما لن يغادر أحد دائرة الحكم، فالجميع بمختلف أطياف الطغمة، سيشتركون كلٌّ حسب عدد مقاعده. بنية السلطة تبقى هي ذاتها، وتغيّرت فقط مواقع الكراسي وأعدادها. فمن حكم منذ عام 2003 ، ما زال يحكم وإن اختلف الاسم والعنوان.
وسنشهد الجدل العقيم ذاته حول الاصطفافات المقيتة في توزيع الرئاسات، والصراع عليها داخل كل مكوّن، والعودة إلى "فزورة الكتلة الأكبر" وتفسيرات المحكمة الاتحادية. وسنبقى في هذا الجدل شهوراً، وربما أكثر. وفي هذه الأجواء ستبقى كل الملفات مؤجّلة: لا إصلاح، لا قرار، لا أمل قريبا. بينما يعاني الفلاحون من شحّة المياه، ويكابد الشباب بطالةً متفاقمة، ويترنّح القطاع الصحي تحت وطأة التردي ونقص الأدوية، ولا حاجة للحديث عن الصناعة والزراعة، ولا عن موقع العراق الذي يتراجع في كل المؤشرات.
يبقى الفساد متمترساً ويتوسع، ويبقى السلاح منفلتاً، والجريمة بلا رادع، وتستمر المخدرات في نخر المجتمع، وتتدهور الخدمات أكثر، ويتفاقم النقص في كل قطاع.
ويبقى السؤال : اية انتخابات نريد ؟ من المؤكد انها تلك التي تُحرِّم مشاركة الفاسدين والمتلاعبين بالمال العام، ومن أساؤوا إدارة الدولة. الانتخابات التي تُمنع الميليشيات من خوضها أو التأثير في نتائجها، ويُضبط الإنفاق المالي في حملاتها، ويُجرّم المال السياسي، ويجري الاستناد إلى مفوضية مستقلة حقاً، وإعلامٍ حرّ لا يخضع للإملاءات. ان انتخاباتٍ بشرطها وشروطها، لا بشخوصها أو شعاراتها، هي وحدها القادرة على تغيير المعادلة وليس تبديل الأسماء.
وكم دورة شبيهة بما جرى سننتظر، كي يدرك الناس أن الحرية لا تُمنح في صندوق، بل تُنتزع حين ينهض الشعب بإرادته الحرة، حين تتحرك الجماهير خارج إرادة المتنفذين، حين تستعيد الحركة الاحتجاجية روحها، حين يدرك الناس أن التغيير لا يُمنح من فوق، بل يُصنع من أسفل، من إرادة الناس الذين يقولون كلمتهم ويمضون بها حتى النهاية.