الطغمة هي في جوهرها حكمُ أقليةٍ تمسك بالمال والسلطة والنفوذ، وتتحكم بخيوط الدولة جميعها. وفي العراق اتخذت هذه البنية شكلاً خاصاً، بعد أن انفلتت الحدود بين السلطة والثروة، وتداخل النفوذ السياسي مع الاقتصاد الريعي ونفوذ السلاح، لتتشكل منظومة هجينة تجمع الفساد بالقوة، والامتياز بالولاء. لذلك فمصطلح الطغمة "الأوليغارشية" ليس توصيفاً نقدياً أو انفعالاً سياسياً، بل اسمٌ دقيق لبنية حكم وُلدت بعد 2003، حين ظهرت طبقة جديدة لم تكن موجودة سابقاً: سياسيون وقادة أحزاب ومسؤولو مليشيات ورجال أعمال متحزبون ووسطاء صفقات، راكموا ثروات هائلة وامتلكوا بنوكاً وجامعات وشركات وأطياناً، حتى أصبحت ثروات بعضهم تفوق ميزانيات وزارات كاملة.
لكن أخطر ما في طغمة الحكم في العراق ليس ثراءها فقط، بل قدرتها على تحويل الفجوة الاجتماعية إلى واقع ثابت لا يُمس. فبينما يعيش ملايين العراقيين البطالة وضعف الخدمات وتآكل الدخل، تحافظ هذه الأقلية على امتيازاتها وكأنها "حق مكتسب"، وتُشرعن اللامساواة بخطاب سياسي وإعلامي يطّبع الفساد ويقدّمه بوصفه أمراً طبيعياً. هذه الفجوة لم تعد اقتصادية فحسب، بل أصبحت فجوة قيمية أيضاً، قيم المواطنة والعدالة والنزاهة في جهة، وفي الجهة الأخرى قيم التفاهة والرثاثة والاستهلاك. فحين تسيطر الطغمة تتراجع المعايير، وتتقدم الحزبوية على الخبرة، وتعلو "الفهلوة" على الكفاءة.
وفي الصراع الاجتماعي، تمسك الطغمة بموقع يقف فوق خطوط الاحتجاج والغضب الشعبي. فهي لا ترى نفسها جزءاً من المجتمع، بل فوقه، تحتكر الموارد وتوزع الفتات وفق مزاج سياسي وحسابات نفوذ. ومع تفجر كل أزمة اقتصادية أو سياسية، لا تتحرك الطغمة لحلّها، بل لإدارتها. فالأزمة بالنسبة لها لا تشكل خطراً، بل مورداً إضافياً، فرصة لشدّ القبضة، وتوسيع الصفقات، وإعادة ترتيب التحالفات بما يضمن استمرار السيطرة وتثبيت الامتيازات.
أما الانتخابات، فهي الأداة الأكثر فاعلية في يد الطغمة. تتقن استخدامها بوصفها القناة الشرعية لإنتاج السلطة، لكنها في الواقع آلية محكمة لإعادة تدوير البنية ذاتها. فالانتخابات تُفرغ من شروط النزاهة، ويُغيَّب قانون الأحزاب، وتتكدس أساليب شراء الأصوات، ويتضخم المال السياسي المشبوه، وتتزايد الضغوط الاجتماعية، ويُسخَّر الإعلام لخدمة مصالح المتنفذين. هكذا يتحول الصندوق من وسيلة تمثيل إلى وسيلة سيطرة، ومن فضاء تنافس إلى ساحة مغلقة تُحدد نتائجها مسبقاً بميزان النفوذ لا بوزن الأصوات. ولهذا يتغير رئيس الوزراء دون ان تتغير بنية السلطة. تتبدل الوجوه، فيما تبقى الشبكات ثابتة. وتستمر الطغمة في إدارة الدولة كما يدير المساهمون شركة خاصة.
الطغمة أيضاً بارعة في تجزئة المجتمع، فهي تُبقي الطبقات الشعبية مشغولة بصراعات جانبية، طائفية وجهوية وحزبوية أو مطلبية محدودة. وفي الوقت نفسه تُحصّن مصالحها بشبكة متشابكة من الامتيازات والعقود والولاءات، تجعل اختراقها أقرب إلى المستحيل. ولأنها ليست مجرد طبقة اقتصادية، بل منظومة قيم ومصالح، فإن إزاحتها لا تتم بتغيير الأشخاص وحسب، بل وبتغيير شروط اللعبة نفسها، إما عبر انتخابات تُجرى بشرطها وشروطها: قانون انتخابي عادل، تطبيق فعلي لقانون الأحزاب، إبعاد المال السياسي، إعلام حر، ومؤسسات لا تخضع للمحاصصة. أو عبر حركة شعبية سلمية، تمتلك رؤية وإرادة للتغيير، وتضع مساراً واضحاً لاستعادة الدولة من قبضة الأقلية المحتكرة.
الطغمة هي العقدة التي لا تنحل إلا بكسر احتكار الأقلية للثروة والسلطة، وإعادة الحكومة إلى وظيفتها الأساسية: خدمة الناس لا خدمة الشركاء في الحكم. فالصراع في العراق لم يعد صراعاً بين أحزاب تتنافس على برامج، بل بين مشروعين متناقضين، مشروع طغمة ترى في الدولة غنيمة تُقتسم داخل الحلقة الضيقة، ومشروع مجتمع يسعى إلى أن تكون الدولة وطناً، ومؤسسة عامة لا شركة خاصة.