لَعقودٍ كاملةٍ رسمت ونفذت الدوائرُ الغربيةُ المختلفة برامجَ لا حصر لها لبثِّ روح العداء للشيوعية، وبالتالي خلق مناخٍ فكريٍّ يعيق أيَّ تعبئةٍ مضادةٍ للسياسات الإمبريالية. وقد عانت المجتمعاتُ الأكثرُ تفاعلاً مع اليسار وتجاوباً مع اهدافه بالحرية والعدالة من التأثيرات القاسية لتلك البرامج، إذ أُغرِقت بالدم، وتحول قسمٌ منها من مركزٍ متقدمٍ لليسار إلى مجتمعاتٍ منغلقةٍ ومُغرَقةٍ في التخلف. وما ساعد في ذلك ـ بشكلٍ غير مباشر أحياناً ـ تمسك البعض باليقينيات التقليدية، رغم انهيار التجربة الأولى وما خلّفه من سحبٍ داكنةٍ حجبت الرؤية، أو انفصالُ اليسار السياسي عن اليسار الاجتماعي حين أصر البعض على تحالفاتٍ تُعينه على المشاركة في السلطة، بغضِّ النظر عن المشروعية الطبقية لهذه التحالفات.
وشهدت برامجُ معاداةِ الشيوعية، طوال السنين، تغييراً في الشكل مع المحافظة على جوهرها، حتى تحوّلت من فكرةٍ إلى أسلوبِ حياة، ومن دعاياتٍ مباشرةٍ إلى خطابٍ مستترٍ أو متلوّن. فراحت تستهدف البيئة الأخلاقية للشيوعية عبر تسفيه قيمِ التضامن والتضحية، والترويج للفردانية ولاقتناص وانتزاع الفرص، وتمجيد القسوة والعنف ضد المختلفين ثقافياً وطبقياً وضد النساء، وعبر إبعاد الأذهان عن التفكير في المساواة، واختلاق ملايين المواقف الزائفة لتشويه تاريخ الشيوعيين، واستخدام "حرص" المتساقطين ممن أعياهم الكفاح، لمهاجمة سياساتهم والدعوة إلى عقلنتها.
كما راحت هذه البرامجُ تختلق فزّاعاتٍ جديدة وتحملها مسؤولية ما يُنتجه التفاوتُ الطبقي من خراب؛ فالشيوعيون يقفون وراء المسلمين والمهاجرين الذين يمثلون "بلاءً" على ثقافة الغرب ودولة الرفاه، ويدافعون عن الأقليات التي تسبب "تأخر" البلدان النامية عن ركب التقدم. ومنهم تأتي أغلبية الأبطال الشعبيين والمدافعين عن الحريات والإنصاف وحقوق المرأة، ممن يجب تصويرهم كخارجين عن القيم، وسفّاحين ومتعصبين وعشّاق سلطة، مقابل إسباغ صفات الزهد والتسامح على أعدائهم من طغاةٍ ولصوصٍ ومستغلين وتجارِ حروبٍ وناشري أوبئة، إلى درجةٍ ارتقى بها هؤلاء إلى مصاف القديسين.
ولم تكن مناهضةُ الشيوعية يوماً ظاهرةً محليةً بحتة، بل هي منظومةٌ عالميةٌ لا تستهدف شيطنةَ المعارضين لها فحسب، بل ومعارضةَ المساواة وإسقاطَ فكرة العمل الجماعي من أجل المنفعة العامة. إنها أيديولوجيا الرأسمالية، لأنها ببساطة تناهض المثلَ العليا التي يرتكز عليها مبدأُ إلغاء الملكية الخاصة والاستغلال والإنتاج من أجل مراكمة الربح.
غير أن المثير للدهشة ـ وللفخر ـ فشلُ برامج معاداة الشيوعية في تحقيق نصرٍ مستدام، وذلك بسبب ما انطوت عليه من مفارقات؛ ففي الوقت الذي تروّج فيه بأن الشيوعية يوتوبيا مستحيلة، تحشد قوى لا حدود لها لمعارضتها، وفيما تُبشِّع ما تسميه "فكرة الحرمان" في الاقتصاد التشاركي، ترى في امتلاك واحد في المائة من البشر 82 في المائة من ثروة الكوكب أمراً عادلاً. وحين تنتقد القوة المفرطة للسلطة الاشتراكية، تُجيز للأقوياء الاستمتاع بعدم المساواة والتسبب في المعاناة، وتبرر شرعيةَ حقهم وحدهم في النعيم.
ولهذا خابت أحلامُ هؤلاء، وبقيت الشيوعيةُ نابضةً بضمير الناس، لأنها الفكرة التي تقف دائماً، وفي كل مكان، إلى جانب المضطهدين؛ ولأن أحزابها أدواتٌ معبّرة عن مصالح طبقةٍ اجتماعيةٍ موجودةٍ موضوعياً؛ ولأن أصحابها لم ولن يهادنوا في النضال السياسي ضد الملكية والاستغلال، ومن أجل العدالة والتحرر من عبودية رأس المال؛ ولأنها فكرةٌ تدحض مبررات الظلم، وتكشف السبب الحقيقي للمآسي.
وأخيراً، ورغم كل هذه الحقائق الناصعة، رأينا مؤخراً بعضَ أيتام الطغاة، ممن ينتظرون يوماً يختفي فيه الشيوعيون من العراق. فأشفقتُ عليهم، وتمنيتُ أن يفيقوا من كوابيسهم ويتخلصوا من أوهامهم، قبل أن يحترقوا عبثاً بأحقادهم.