رغم التحذيرات المتكررة من تفاقم أزمة المياه وتراجع الزراعة في محافظة المثنى، تبقى قرية "آل عبس" شاهداً حياً على التدهور المستمر في واقع الريف الجنوبي، وسط غياب واضح لأية تدخلات تنموية جادة تجاه سنوات من الجفاف، وتقلص الحصص المائية، وتراجع الدعم الزراعي، ما دفع السكان نحو الهجرة القسرية، ودُفِن ما تبقى من أمل في حياة كريمة داخل قريتهم.
تقع قرية ال عبس في عمق البادية الجنوبية لمحافظة المثنى، إحدى المناطق الريفية التي كانت عامرة بالزراعة والمياه، وتحولت اليوم إلى صحراء قاحلة بفعل التغيرات المناخية والإهمال الحكومي. هذا ما يؤكده محسن محمد، أحد سكان عشيرة آلبوحسن، التي تقطن القرية منذ عقود، حيث يروي بداية التحولات قائلاً، ان "المنطقة كانت عامرة بالمياه، وكان عندهم أنهار ومشاريع وبذور، لكن التغيرات المناخية قلبت كل شيء. اليوم، المياه جفت، والزراعة اختفت، والناس بدأت تترك القرية وتتجه للمدينة".
لا زراعة ولا خدمات
ويقول محسن لـ"طريق الشعب"، موضحا أثر الجفاف في القرية: "كنا نزرع بالاعتماد على نهر الفرات، لكن الآن قل منسوب الماء، وحتى المضخات التي كانت تنصبها العشائر ما عادت تنفع. الزراعة اليوم صارت شبه منعدمة".
وعن الخدمات الأساسية والبنية التحتية، يضيف محسن، ان "ليست لدينا شوارع معبدة ولا طرق سليمة وسالكة. أكثر الطرق الموجودة ترابية وعرة، والبيوت كلها قديمة مبنية من الطين"، ويتابع ان "المدارس قليلة، وأكثرها مشيدة بمواد الساندويش بنل، وتبعد عن منازلنا حوالي 4 أو 5 كيلومترات. الأطفال يعانون كثيرا في الذهاب للمدرسة، وفي الغالب يتركونها، وهذا أحد أسباب ارتفاع الأمية بين النساء وكبار السن".
ثم يشير محسن إلى الوضع الصحي: "يوجد مركز صحي واحد فقط، ويبعد تقريبا 15 كيلومترا عن المنطقة. كما يخلو من الكوادر الكافية، والتجهيزات الطبية، وإذا صار طارئ".
ويذكر أيضا ان المعاناة من شح الماء وغياب الكهرباء لها قصة اخرى: "ننقل الماء بالتناكر، والكهرباء نعتمد على المولدات الأهلية. ليست لدينا شبكات مياه أو كهرباء".
ويبين بأن نساء القرى من الأرامل والمطلقات يحتجن الى توعية قانونية ودورات تدريب.
ويختتم محسن حديثه بمناشدة واضحة: "لا توجد معامل ولا شغل، حتى الحرف اليدوية اندثرت. نحتاج لمشاريع تنموية حقيقية، نحتاج لفرص عمل، نحتاج لدورات تعليم مهني وغيرها".
تردي الأوضاع البيئية
وعن واقع الزراعة، يتحدث سفر محمد، أحد مزارعي قرية آل عبس، قائلاً إن الزراعة التي اعتمدت عليها العائلات لسنوات أصبحت شبه متوقفة، نتيجة شح المياه وتردي الأوضاع البيئية.
ويقول محمد لـ"طريق الشعب"، أن "مياه الري غير متوفرة، واراضينا تتآكل بفعل الجفاف"، مؤكدا قيام الكثير من المزارعين ببيع مواشيهم بسبب عدم القدرة على توفير العلف والماء.
ويضيف أن "النزوح نحو مراكز المدن لم يكن خياراً، بل فرضته الظروف الصعبة"، حيث يواجه النازحون أوضاعاً معيشية قاسية، في ظل غياب فرص العمل والسكن اللائق، والضغط الكبير على الخدمات الأساسية داخل المدن.
ويدعو محمد الحكومة إلى إعلان المثنى منطقة منكوبة بيئياً ومائياً، وتوفير موازنة طارئة لإعادة تأهيل شبكات الري وحماية ما تبقى من الأراضي الزراعية، لأنه "من دون ماء، لا حياة للناس ولا للأرض".
ويذكر أن مشروع التبليط القرية رأيناه للمرة الأولى في عام 2023، إلا أنه ما زال متعثراً ولم يُستكمل، مبيناً أن الأهالي لم يلمسوا أي تحسن فعلي في البنية التحتية، رغم الوعود المتكررة.
الوضع تحت السيطرة!
وفي السياق، يكشف المهندس يوسف سوادي، معاون محافظ المثنى لشؤون الزراعة والموارد المائية، عن حجم التحديات التي تواجهها المحافظة نتيجة شح المياه، لا سيما من نهر دجلة، مشيراً إلى أن ذلك تسبب في موجات نزوح واسعة بين المزارعين، وتركهم لمهنتهم التي لم تعد ممكنة في ظل هذه الظروف.
ويصرح سوادي لـ"طريق الشعب"، أن المحافظة اضطرت، أمام هذا الواقع، إلى التوسع باتجاه البادية الجنوبية وتخصيص مساحات لزراعة المحاصيل الاستراتيجية مثل الحنطة والشعير والذرة، والتي تعتمد بشكل أساسي على المياه الجوفية، مؤكداً أهمية استخدام تقنيات الري الحديثة للحفاظ على هذا المورد.
وفيما يحذر من الاستخدام المفرط للمياه الجوفية لما له من تأثير سلبي على التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة، يشير إلى أن المثنى ما تزال تحتفظ بمورد مائي وفير نسبياً. ويؤكد أن هناك جهودا مستمرة لتنظيم استخدامه وضمان استدامته.
ويطمئن أن "الوضع لا يزال تحت السيطرة".
ويسلط سوادي الضوء على تفاقم الهجرة من القرى الواقعة على مقربة من نهر الفرات، ومنها "آل عبس"، موضحاً أن تراجع الإطلاقات المائية يعود إلى سياسة دول المنبع المائية – وعلى رأسها تركيا – فضلاً عن تجاوزات المحافظات المجاورة مثل بابل والديوانية والنجف، التي أثرت بشكل مباشر على حصة المثنى المائية، داعيا إلى إجراءات حازمة لوقف التجاوز على المياه الجوفية، بالتزامن مع جهود الحكومة المحلية لضمان وصول الحصة المائية العادلة من نهر الفرات. كما يشدد على أهمية التنسيق مع دول الجوار لتأمين تدفق المياه إلى العراق عموماً، والمثنى على وجه الخصوص.