في أحد أحياء بغداد الحديثة، أو ما يُطلق عليها "الراقية"، توقفت عبير أمام متجر لشراء قنينة ماء صغيرة لابنها، فاكتشفت أن سعرها 500 دينار. تنهدت وقالت: "في محافظتنا نشتري قنينتين بهذا السعر"!
وبينما دفعت الـ 500 دينار، بدأت تفكر في بدل إيجار المنزل الذي طلبه صاحب العقار، والبالغ نحو 900 دولار شهريا. وهو مبلغ يفوق قدرتها الشرائية ويجعل فكرة انتقالها إلى بيت أوسع في منطقة حديثة نسبيا، حلما بعيد المنال.
قصة عبير ليست غريبة. فهي تلخص معاناة آلاف العائلات البغدادية التي تصطدم يومياً بجدار الأسعار. فمن أبسط الأشياء كقنينة الماء أو أجرة التاكسي، إلى العقارات التي تُباع بملايين الدولارات، تحولت العاصمة إلى "مدينة غلاء" تُثقِل كاهل سكانها وتستنزف دخلهم.
متاهة مكتظة بمحالّ المواد الغذائية والملابس والمطاعم والمقاهي الصغيرة والكبيرة ومراكز التسوّق المتلاصقة، كلها تشكّل صورة لمدينة تقدّم نفسها كسوق استهلاكي مفتوح بلا متنفسات عامة أو ملامح حياة هادئة.
لكن وفرة العروض لا تعني أنها مدينة يسهل العيش فيها. فالأسعار ترتفع إلى مستويات لا تضاهيها حتى أسعار بعض الوجهات السياحية في المنطقة، من وجبة سريعة إلى شقة سكنية، تكاد كل سلعة أو خدمة تكلف ضعف ما يجده العراقي في أي مدينة أخرى.
وعلى الورق تُعرّف بغداد بأنها العاصمة الإدارية ومركز مؤسسات الدولة وملتقى كبار التجار والمستوردين، لكن هذا التعريف يخفي واقعاً آخر، حيث التضخم المفرط الناتج عن شبكة معقّدة من الاحتكار والفساد والطلب غير المنظّم – وفقا لمراقبين يرون أيضا أن مدناً مثل البصرة الغنية بالنفط، وأربيل والسليمانية المعروفتين كوجهتين سياحيتين، لا تزال أقل كلفة من العاصمة.
التجار يتحمّلون كلفا إضافية
حين يُسأل خبراء اقتصاديون عن أسباب الغلاء في بغداد مقارنة بمدن أخرى، يجيبون بأن المسألة تتجاوز العرض والطلب إلى بنية اقتصادية مشوّهة.
الخبير الاقتصادي نبيل جبار العلي، يقسّم المشكلة إلى محاور عدّة: "إيصال أي سلعة إلى العاصمة يحمّل التجار كلفاً إضافية تبدأ من النقل وتنتهي عند الرسوم غير الرسمية. كما أن غياب المنافسة واحتكار بعض السلع من قبل عدد محدود من التجار يضاعف الأعباء".
ويضيف في حديث صحفي قوله أن "بغداد، إلى جانب كونها مركز القرار السياسي، تحولت إلى بيئة مرتفعة الكلفة في كل شيء: الإيجارات، أجور العمال، وكلف النقل التي تتفاقم بسبب الازدحامات اليومية".
لكن العبء الأكبر - كما يقول العلي - يتمثل في الفساد البنيوي "المستوردون يتعرضون لابتزاز مقابل تمرير بضائعهم أو الحصول على الموافقات الرسمية. وهذه التكاليف غير المرئية يدفع ثمنها المواطن في النهاية".
ويقارن العلي الوضع بتركيا وغيرها من البلدان التجارية. حيث تربط شركات كبرى تعمل في خدمة البريد، بين المدن، ما يخفض تكاليف النقل. بينما يفتقر العراق إلى منظومة لوجستية فاعلة في هذا الشأن، ما يجعل حركة البضائع أكثر كلفة وأقل استقراراً.
غير أن التفاوت لا يقف عند حدود النقل. فإقليم كردستان، رغم تسهيلاته الكمركية وانفتاحه التجاري، يواجه هو الآخر مفارقة اقتصادية. إذ يقول العلي أن "الإقليم يتمتع بتسهيلات كمركية واسعة جعلته وجهة للتجارة، لكن بعض السلع خصوصاً التكنولوجية وقطع غيار السيارات، ارتفعت أسعارها بنحو 30 في المائة مقارنة ببغداد".
ويرى أن "السبب يعود إلى منصة البنك المركزي الخاصة بتمويل التجارة بالدولار. فبينما استفاد تجار بغداد من السعر الرسمي عبر المنصة، حُرم الكثيرون من تجار الإقليم منها بسبب غياب المصارف الحكومية، ما اضطرهم لشراء الدولار من السوق الموازية، فارتفعت كلفة الاستيراد والأسعار النهائية".
مفارقات الأسعار
يكشف متابعون لحركة السوق هوّة بين المدن من ناحية الأسعار، مبينين أن قنينة الماء سعة 250 مل، تُباع في بعض مراكز التسوّق البغدادية الحديثة بـ500 دينار، بينما تُباع في بقية المحافظات ومنها محافظات كردستان، بـ250 دينارا فقط.
ويضيفون القول أن معدّل أجرة وقوف السيارة في مواقف السيارات بمركز العاصمة يبلغ 5000 دينار، بينما في كردستان ومدن الجنوب يبلغ معدل الأجرة 1500 دينار.
أما في العقارات، فتُصنّف بغداد بين أغلى مدن الشرق الأوسط. فالإيجار في العاصمة الأردنية عمّان، المعروفة بارتفاع تكاليفها، يتراوح بين 200 و400 دولار شهريا للشقة أو المنزل، بينما لا يقل في مركز بغداد عن 800 دولار لمنزل متواضع. في المقابل، تتراوح الإيجارات في السليمانية وأربيل والجنوب بين 150 و250 دولاراً فقط – حسب متابعين يرون أن هذه الفوارق لا تعكس اختلاف كلف المعيشة فقط، بل غياب سياسة تسعير وطنية عادلة توازن بين الدخل والإنفاق.
دخل مرتفع ومعيشة أثقل
الخبير الاقتصادي صفوان قصي يرى من جانبه أن ارتفاع الأسعار في بغداد يرتبط بمعدل الدخل الأعلى لسكانها مقارنة بالمحافظات الأخرى. ويقول في حديث صحفي: "في بغداد هناك شرائح مجتمعية متعددة ومعدل دخل الأسرة أكبر، وهذا الأمر رفع القوة الشرائية".
ويستدرك "لكن هذه الوفرة النسبية لم تنعكس على رفاه السكان، بل أدت إلى تضخم أكبر في المعيشة"، مقترحا "خلق أسواق متخصصة تربط الجنوب وكردستان بالعاصمة، والسماح بحرية انتقال السلع لتقليص الفوارق السعرية، إضافة إلى رسم خارطة واضحة لإعادة توزيع الدخل عبر سياسات إنفاق عادلة".
وفي السياق، يوضح الخبير الاقتصادي مصطفى الفرج أن "العواصم عادة ما تكون أغلى بطبيعتها. لكن بغداد تحمل عبئاً إضافياً يتمثل في ضعف البنى التحتية وزيادة الإنفاق على الأمن والطاقة".
ويشير في حديث صحفي إلى ان "وجود طبقة من رجال الأعمال وذوي الدخول المرتفعة يسحب الأسعار نحو الأعلى، في حين تتراجع القدرة الشرائية للطبقة الوسطى يوماً بعد آخر".
وبيّن أنه "في حين يمكن شراء منزل متكامل في أربيل أو السليمانية بنحو 100 ألف دولار وأقل في الأحياء الشعبية، فإن السعر في بغداد يقفز إلى مليون دولار أو أكثر في العديد من الأحياء".
الاستثمار في العقارات
إلى ذلك، تتحدث المهندسة كتبة محمد، وهي صاحبة شركة إنشاءات، عن أسباب ارتفاع أسعار العقارات في بغداد مقارنة بالمحافظات الأخرى. وتقول أن "الأزمة تبدأ من نقص المعروض وتزايد الطلب".
وتوضح في حديث صحفي أن "الاستثمار في العقارات أصبح الملاذ الآمن في العراق، ومع تراجع قيمة الدينار أمام الدولار ارتفعت الأسعار بشكل غير مسبوق".
لكنها تشير إلى جانب أكثر قتامة: "الكثير من الفاسدين يستثمرون أموالهم في العقارات لتبييضها، ما يضخ أموالاً غير شرعية في السوق ويرفع الأسعار".
وتلفت إلى انه "في بعض أحياء العاصمة الراقية، يتراوح سعر المتر الواحد بين 3500 و14 ألف دولار.
وهي أرقام تنافس أغلى مدن العالم، دون بنى تحتية تبررها".ش