يتزايد العبء المالي على الموازنة المالية العامة مع تجاوز عدد الموظفين والمتقاعدين أكثر من ثمانية ملايين شخص، في وقت لا يزال فيه القطاع الخاص يعاني الجمود وضعف النشاط الإنتاجي، ما يعمّق اختلال التوازن بين النفقات التشغيلية والإنفاق الاستثماري في البلاد. ففي تصريح صحفي أفاد وزير العمل والشؤون الاجتماعية أحمد الأسدي بأن عدد الموظفين والمتقاعدين في البلاد تجاوز ثمانية ملايين شخص، في رقم غير مسبوق يعكس اتساع حجم الموازنة التشغيلية واعتماد الدولة المتزايد على الإنفاق الحكومي لتغطية الرواتب والمخصصات - وفقاً لاختصاصيين.
ويشير الأسدي إلى أن الحكومة تعمل في المقابل على توسيع مظلة الحماية الاجتماعية وشمول فئات جديدة من العاملين في القطاع الخاص ضمن قانون الضمان الاجتماعي الجديد، بهدف تحقيق العدالة بين مختلف شرائح القوى العاملة وتنظيم سوق العمل، مبينا أن وزارته مستمرة في تنفيذ القانون الجديد الذي شمل الحلاقين وسائقي سيارات الأجرة ضمن الضمان الاجتماعي.
وذكر أن الوزارة تعاقدت مع 15 مستشفى داخل العراق لتقديم الخدمات الطبية والعلاجية للعمال المضمونين، لافتا إلى أن راتب العامل المتقاعد ارتفع من 400 إلى 600 ألف دينار شهرياً، بما ينسجم مع تكاليف المعيشة الحالية.
ورغم أهمية هذه الخطوات في تعزيز العدالة الاجتماعية، إلا أن ارتفاع أعداد الموظفين والمتقاعدين إلى أكثر من ثمانية ملايين شخص يثير تساؤلات اقتصادية حول العبء المتزايد على الموازنة التشغيلية التي تستهلك أكثر من ثلثي الإنفاق العام، ما يترك حيزاً محدوداً للإنفاق الاستثماري ومشاريع التنمية.
اختلال هيكلي في الاقتصاد
في السياق، يقول الخبير الاقتصادي عبد السلام حسن زيادة الموازنة التشغيلية تعكس اختلالاً هيكلياً في الاقتصاد العراقي "إذ باتت الدولة المصدر الرئيس للدخل والتوظيف في وقت يعاني فيه القطاع الخاص الركود وضعف الاستثمار".
ويوضح في حديث صحفي أن "الإنفاق السنوي على الرواتب يشكل حالياً ما يقارب 68 في المائة من إجمالي الموازنة العامة. إذ ان الرواتب تكلف خزينة الدولة سنوياً ما يصل إلى 65 تريليون دينار. وهو رقم مرتفع جداً قياساً بحجم الإيرادات غير النفطية، ما يجعل الموازنة العامة رهينة لتقلبات أسعار النفط".
ويضيف عبد السلام أن المشكلة ليست في زيادة الرواتب أو التعيينات بحد ذاتها، بل في غياب الإنتاجية المقابلة "إذ لا تزال مؤسسات الدولة تستهلك النفقات دون أن تُنتج قيمة اقتصادية موازية، في حين أن القطاع الخاص لم يحصل بعد على البيئة القانونية والتمويلية الكفيلة بتمكينه من خلق فرص عمل حقيقية"، مشيرا إلى أن "الفئات المشمولة بقانون الضمان الاجتماعي، كالحلاقين وسائقي سيارات الأجرة، تعاني انخفاض مستوى الدخل والأجر اليومي، بسبب عدم وجود قوانين تحمي وتنظم عمل هذه الفئات وغيرها من فئات القطاع الخاص".
ويرى أن "الحل يكمن في تحفيز القطاع الخاص عبر تسهيلات ضريبية وتمويلية وإعادة هيكلة قوانين الاستثمار والضمان، بحيث تتحول الدولة من مشغّل مباشر إلى منسّقٍ ومحفّزٍ للنشاط الاقتصادي"، محذراً من أن استمرار هذا النهج سيبقي العراق في دائرة الإنفاق الريعي ويؤجل أي إصلاح اقتصادي فعلي.
تحديات تواجه الحلاقين والسائقين!
من جانبه، يقول الباحث الاقتصادي علي العامري أن شمول فئات المهن الحرة مثل الحلاقين وسائقي سيارات الأجرة بالضمان الاجتماعي يمثل خطوة إيجابية على طريق تنظيم سوق العمل وتوسيع قاعدة الحماية الاجتماعية، لكنه في الوقت نفسه يكشف عن تحديات واقعية كبيرة ستواجه هذه الفئات في التطبيق العملي، في ظل وجود العمل المزدوج. حيث يعمل الكثيرون من الموظفين في مهن حرة بعد انتهاء دواماتهم، ما يزاحم الفئات التي تعتاش على تلك المهن.
ويوضح في حديث صحفي أن العمال في القطاعات غير المنظمة غالباً ما يفتقرون إلى الاستقرار في الدخل، ما يجعلهم عاجزين عن تسديد الاشتراكات الشهرية بانتظام، خصوصاً في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة وضعف القدرة الشرائية، لافتاً إلى أن نجاح هذه التجربة يتوقف على مرونة النظام التأميني وقدرته على التكيّف مع طبيعة العمل اليومي لهذه الفئات.
ويرى العامري أن تطوير نظام الضمان الاجتماعي يتطلب ألا يقتصر على الشمول القانوني فقط، بل أن يكون نظاماً محفزاً ومتكاملاً، يتضمن مساهمات حكومية جزئية أو دعماً مرحلياً للعاملين ذوي الدخل المحدود، إلى جانب تسهيلات مصرفية وتشريعات تضمن تسجيل العمال في صناديق التأمين بشكل واقعي ومستدام، منوّها إلى أن إدخال فئات جديدة إلى مظلة الضمان الاجتماعي خطوة مهمة نحو تحقيق التوازن بين القطاعين العام والخاص، لكنها لا يمكن أن تُحدث أثراً اقتصادياً حقيقياً ما لم ترافقها إصلاحات مالية وهيكلية تقلص الفجوة الكبيرة في مستوى الدخل بين موظفي الدولة والعاملين في القطاع الخاص.
ويلفت العامري إلى أن القطاع العام يستحوذ على معظم الكتلة النقدية المخصصة للرواتب في الموازنة، بينما يظل القطاع الخاص محدوداً في قدرته على توليد فرص عمل ذات مردود عادل، ما يخلق حالة من الازدواج الاقتصادي تهدد الاستقرار على المدى الطويل.
ويشدد على أن "الدولة مطالبة بإعادة رسم سياستها في نظام الأجور والضمان الاجتماعي، بحيث تعكس العدالة والكفاءة من خلال تحفيز القطاع الخاص على التسجيل الرسمي وتقديم مزايا تأمينية جاذبة، وبذلك يمكن للعراق أن يتحرك نحو اقتصاد متوازن يحقق العدالة الاجتماعية ويقلل الاعتماد على التوظيف الحكومي مصدراً رئيساً للدخل".