في سنوات الحصار الاقتصادي تسعينيات القرن الماضي، تعرّض قطاع التعليم الحكومي، شأن بقية القطاعات، إلى تدهور كبير من جميع النواحي، ما ساعد على بروز التدريس الخصوصي كخلاص فردي للطلبة وأسرهم، وللمعلم الذي بات راتبه لا يُغطي الجزء البسيط من متطلبات المعيشة.
في تلك الاثناء، تحول التدريس الخصوصي شيئا فشيئا إلى شرط غير معلن لنجاح الطالب. إذ كانت المدارس تعاني نقص المناهج والكوادر وضعف البنى التحتية، حتى صار بعض المدرسين يقدمون دروسا خاصة لطلبتهم مقابل أجور، بما يشبه رسوم عبور للنجاح، في ظل تراجع اقتصادي خانق وغياب للرقابة.
لكن المفارقة، هي أن الظاهرة لم تتراجع بعد تحسن الظروف، بل اتسعت بصورة أكبر، حتى وصلت إلى فتح معاهد متخصصة في التدريس الخصوصي، الذي تجذّر في المجتمع التعليمي ليس فقط بوصفه دعما إضافيا، إنما كبديل فعلي للتعليم النظامي. ومع الانتشار الواسع للمدارس الأهلية خلال العقد الأخير، تسارعت الظاهرة أكثر، مستفيدة من ضعف الرقابة الأكاديمية وغياب معايير التعيين الرصين.
لكن الأغرب من ذلك، هو أنّ موجة الدروس الخصوصية تجاوزت المدارس ووصلت إلى الجامعات. وهذه سابقة لم يعرفها العراق في العقود الماضية. إذ يضطر طلبة كليات مرموقة – مثل الهندسة والطب والعلوم – إلى البحث عن مدرّس خصوصي، لتعويض ما يفترض أن تقدمه قاعات الجامعة، سواء بسبب ضعف إيصال المادة العلمية أم نتيجة عدم امتلاك بعض المدرسين الجدد مهارات التدريس، أم بسبب التعيينات السريعة التي شهدتها جامعات أهلية وحكومية على حدٍّ سواء.
هذا التحول يطرح أسئلة حول جودة التعليم العالي وفاعلية الكادر الأكاديمي، وقدرة الجامعات على أداء دورها الطبيعي. كما يكشف عن فجوة واسعة بين مستوى الطلبة وما يُفترض أن يتلقوه، ليصبح التعليم خارج الجامعة، وبكلفة باهظة، شرطا من شروط البقاء الدراسي.
ويرى مراقبون أن تنامي هذه الظاهرة وامتدادها من المدارس إلى الجامعات، لا يشير فقط إلى خلل إداري أو أكاديمي، إنما يعبّر عن أزمة أعمق في بنية التعليم، وعن تآكل الثقة في المؤسسات التي أنشئت أصلا لتكون المصدر الأول للمعرفة. وهذا ما يدفع إلى التساؤل: إذا كان الطالب بحاجة إلى معلم بديل لإنقاذ مستقبله، فماذا تبقى إذن من دور الجامعة؟!
ملاذ اضطراري
يصف طلبة في كليات الهندسة والعلوم الطبية والإدارة والاقتصاد وغيرها، الدروس الخصوصية بأنها "ملاذ اضطراري لا يمكن الاستغناء عنه في ظل ضعف توصيل المواد العلمية داخل قاعات الدراسة".
ويوضحون في حديث صحفي أن كفاءة التدريس هي الشرط الأول عند البحث عن مدرس خصوصي، وأنهم يشترطون أن يكون الأستاذ حاصلا على شهادته العليا في جامعة عراقية أو في جامعة عالمية معروفة، وأن يقدم محاضرة أو اثنتين مجانيتَين، لاختبار طريقة تدريسه وقدرته على تبسيط المعلومات.
أجور عالية
إضافة إلى النفقات الكثيرة التي تتحملها أسر الطلبة، من أجور نقل وشراء لوازم الدراسة وغير ذلك من النفقات، باتت أجور التدريس الخصوصي تضيف إلى كواهل تلك الأسر مزيدا من الأعباء المالية، خاصة أن قسما من الدروس يتلقاه الطالب مقابل أجر يتراوح بين 25 و60 ألف دينار للمحاضرة الواحدة. وفي بعض التخصصات الطبية والهندسية المعقدة قد يصل الأجر إلى 150 ألف دينار للدورة القصيرة.
المواطنة سهى العبيدي، وهي والدة طالبة في إحدى كليات طب الأسنان الأهلية في بغداد، تقول في حديث صحفي: "اضطررت إلى إرسال ابنتي إلى مدرسين خصوصيين ثلاث مرات أسبوعياً. إذ أدفع ما يقارب 300 ألف دينار شهريا لأولئك المدرسين، وهذا مبلغ يفوق قدرة الأسرة، لكنه الحل الوحيد لتجاوز السنة الدراسية".
وتضيف قولها: "الدروس الخصوصية شرط غير معلن للنجاح الجامعي، خصوصا في بعض الكليات الأهلية التي تفتقر إلى تدريس مستقر وكادر أكاديمي مؤهل"، مبينة أن "هناك أساتذة جامعيين غير مؤهلين لتقديم الدروس للطلبة، وهم غالبا من الخريجين الجدد الذين عيُنوا سريعا بشهادات حصلوا عليها من جامعات خارجية غير معروفة".
شهادات من جامعات غير رصينة
تشير مصادر أكاديمية إلى أن جزءا من الأزمة يعود إلى دخول عدد كبير من حملة الشهادات العليا إلى سوق التعليم العالي، ممن حصلوا على درجتي الماجستير والدكتوراه عبر برامج دراسية غير رصينة في دول مثل لبنان وإيران وغيرهما، لافتة إلى أن بعض تلك الشهادات مُنح بعد دراسة عن بعد من دون تطبيق معايير البحث العلمي أو الإشراف الحقيقي.
وفي هذا السياق، تنقل وكالة أنباء "العربي الجديد" عن تدريسي في جامعة بغداد، قوله أن "أقساما علمية في الجامعة استقبلت عددا كبيرا ممن يحملون شهادات عليا من جامعات مغمورة، وبعضهم لا يملك أدوات التدريس أو مهارات البحث، ما أدى إلى انخفاض واضح في مستوى المحاضرات، وزيادة اعتماد الطلبة على مصادر خارج قاعة الدرس".
وحسب نقابة الأكاديميين العراقيين، فإن جامعات أهلية عدة تعمل بطاقة تتجاوز قدراتها الحقيقية. فتعيّن مدرسين غير مؤهلين لتغطية نقص الكادر، ما ينعكس مباشرة على مستوى الطلبة.
ويقول عضو النقابة ماجد البياتي، أن "المشكلة تكمن في ضعف إجراءات الاعتماد، وعدم وجود نظام صارم لتقييم الكادر الأكاديمي، إلى جانب غياب محاسبة الجامعات التي تستقدم كوادر غير ذات كفاءة. فعليا يتعامل بعض الجامعات مع العملية التعليمية بوصفها مشروعا تجاريا يقدم شهادات مقابل رسوم مرتفعة، من دون ضمان جودة المحتوى أو التدريس".
خريجون بلا مهارات
إلى ذلك، يُحذر خبراء تربويون من أن استمرار هذه ظاهرة التدريس الخصوصي في التعليم العالي سيقود إلى فجوة حقيقية في مستوى الخريجين، خصوصا في التخصّصات الحساسة مثل الطب والهندسة.
ويقول الباحث في شؤون التعليم د. مجيد الربيعي: "قد ينجح طلبة الجامعات الذين يعتمدون على دروس خصوصية، في الامتحانات، لكنهم لن يتخرجوا بالمهارات المطلوبة"، مبينا في حديث صحفي أن "الجامعات العراقية خسرت جزءا من دورها في التدريب العملي وإعداد الطلبة".
ويضيف قائلا: "تحوّلت الدروس الخصوصية من وسيلة مساعدة إلى بديل فعلي للمحاضرات الجامعية، وهذا مؤشر خطير يدل على انهيار الثقة في المؤسسة التعليمية".
وسبق أن رصدت تقارير محلية تراجعاً في مستوى البحوث تمثل في وجود مكتبات في بغداد ومحافظات عدة، تبيع بحوثا ورسائل علمية جاهزة، ما يُفقد عملية البحث نزاهتها، ويؤدي إلى دخول أشخاص للتعليم العالي لا يملكون مؤهلات حقيقية.
ويدعو البياتي وزارة التعليم العالي إلى وضع آلية صارمة لتقييم المدرسين، عبر "إجراء اختبارات كفاءة دورية، وإعادة النظر في شهادات بعض خريجي الجامعات الخارجية، وتنظيم عملية التعيين لضمان عدم دخول كوادر غير مؤهلة"، مشددا على "أهمية مراقبة أداء الجامعات، وتعزيز التدريب التربوي، واعتماد أساليب تدريس حديثة تقلل اعتماد الطالب على الدروس الخارجية".
وتشير ظاهرة لجوء طلبة الجامعات إلى الدروس الخصوصية رغم كلفتها العالية، إلى أزمة في بنية التعليم العالي في البلاد. إذ يُضطر الطالب نفسه إلى البحث عن معلم بديل قادر على تبسيط المادة العلمية، لأن المؤسّسة التعليمية لم تعد تؤدي دورها كما يجب!