تشير تقديرات منظمات محلية ودولية إلى أن معدلات الانتحار تضاعفت في العراق خلال العقد الأخير، خصوصاً بين الفئة العمرية من 18 إلى 35 سنة، عازية الأسباب إلى تراكم الأزمات المعيشية، وانسداد الأفق أمام أجيال تعاني البطالة، ويغيب عنها الدعم النفسي والاجتماعي، فضلا عن تفشي المخدرات.
وحصدت الظاهرة آلافا من المواطنين، ولا تزال تحصد. إذ تسجد محافظات عديدة، لا سيما بغداد والبصرة ونينوى وديالى، حالات انتحار شبه اسبوعية.
والثلاثاء الماضي أعلنت السلطات الأمنية في الأنبار، وفاة عنصر في الشرطة أطلق على نفسه الرصاص بسلاحه الشخصي خلال مناوبته في المحافظة. وسبق ذلك انتحار عنصر آخر في الدفاع المدني.
ووفقا لاختصاصيين في علم الاجتماع، فإن تزايد حالات الانتحار وراءه العديد من الأسباب، من بينها الفقر والبطالة، وفقدان الإحساس بالانتماء، وأسباب شخصية مثل الخلافات الاجتماعية، والديون، والشعور بالخذلان، والتي تخلف جميعها اضطرابات نفسية متعددة.
ويؤكد الاختصاصيون أن الوصمة المجتمعية التي تُلاحق مراجعي الطبيب النفسي، أحد أسباب تطور الأزمات النفسية. إذ يمنع هذا الحاجز مصابين بحالات نفسية من طلب الدعم، فينتهي بهم الأمر إلى الانتحار، مضيفين أن ضعف بنية قطاع الصحة النفسية ونقص الكوادر المؤهلة يفاقمان الأزمة، ويتركان الضحايا في مواجهة معاناتهم، خصوصاً في المناطق البعيدة عن مراكز المدن. وكانت الحكومة العراقية قد أقرّت الاستراتيجية الوطنية للوقاية من الانتحار للفترة بين عامي 2023 و2030، لكنها لم تذكر تفاصيلَ محددة عن تلك الاستراتيجية.
فيما أوصت بتعزيز فرص الحصول على الرعاية الصحية، وتكثيف جهود المساعدة في مجال الصحة النفسية، ومعالجة الوصمة المرتبطة بها.
وخلال العام الحالي سجلت محافظة ذي قار أكثر من 45 حالة انتحار، وفي البصرة سجلت 18 حالة، وفي بابل 9 حالات، وفي الأنبار 4 حالات. في حين سجلت محافظة ديالى أكثر من 30 حالة انتحار، واعتبر مكتب مفوضية حقوق الإنسان في المحافظة، أن "معظم أسباب الانتحار نفسية واجتماعية، إضافة إلى ارتدادات تراكم الديون، وأخرى ترتبط بالمشكلات العائلية والخيانة الزوجية والاكتئاب النفسي"، مبينا أن "طرق الانتحار تنوعت بين الطلق الناري والحرق والشنق".
وبحسب بيانات المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان، فإن "تنامي ظاهرة الانتحار يعود إلى تفشي المخدرات، والعنف الأسري، والبطالة"، مضيفا أن "70 في المائة من المنتحرين دون سن الثلاثين، وأغلبهم ليس لديهم أي تحصيل دراسي".
ويؤكد المركز أن "الحكومة مسؤولة عن معالجة الأسباب التي تؤدي إلى تفشي هذه الظاهرة الدخيلة على المجتمع العراقي، من خلال مكافحة المخدرات ومعالجة البطالة والإسراع في تشريع قانون العنف الأسري".
وتشهد البلاد ظاهرة انتحار المنتسبين إلى الأجهزة الأمنية. فخلال الشهور الماضية سجلت السلطات عدداً كبيراً من حالات الانتحار بين تلك الفئة، كان أبرزها ضابط برتبة عقيد، انتحر داخل منزله في قضاء المدائن جنوبي بغداد، بشنق نفسه.
الحزن المتجذّر!
الناشط المدني محمود العزاوي، يقول في حديث صحفي أن "معدلات الانتحار تتزايد رغم محاولات الجهات الرسمية تقليص الأعداد، وان الأرقام التي تتداولها المنظمات الحقوقية مقلقة للغاية". فيما يرى أن "الأسباب التي تقف خلف الانتحار معروفة، وتتلخص في العوز والفقر، والشعور باللا جدوى من الاستمرار في الحياة، إضافة إلى صفة الحزن المُلازمة للشخصية العراقية"، مشيرا إلى فشل الحكومات المتعاقبة في مواجهة أسباب هذه الظاهرة الخطيرة. وسجل العراق خلال الأعوام الماضية أرقاماً متفاوتة في حالات الانتحار، وفقاً لتقارير السلطات الأمنية. إذ سجل عام 2022 نحو 1100 حالة، وفي العام 2023 سجلت قرابة 1300 حالة. بينما سجل أكثر من 1500 حالة انتحار خلال عام 2024 الماضي، وهي أرقام عزاها المتحدث باسم وزارة الداخلية خالد المحنا، إلى "الكثافة السكانية، وتردي الأوضاع المعيشية، فضلاً عن العنف الأسري، والابتزاز الإلكتروني".
ضغط نفسي واجتماعي
من جانبه، يرى الاختصاصي في الصحة النفسية د. علي عبد علوان أن "تزايد حالات الانتحار في العراق لا يمكن قراءته كحوادث فردية معزولة، إنما كمؤشر على ضغط نفسي واجتماعي متراكم، مرتبط بالبطالة، والفقر، واضطرابات ما بعد الصدمات، وغياب خدمات الدعم النفسي المنتظمة". ويضيف في حديث صحفي قوله أن “الخطورة الحقيقية لا تكمن في الأرقام المعلنة فقط، بل في الحالات غير المسجلة، وفي ثقافة الصمت التي تمنع كثيرين من طلب المساعدة في وقت مبكر".
وينوّه د. علوان إلى ان "المجتمع يتعامل مع الانتحار بوصفه وصمة، بينما من المفترض أن يراه كإنذار. كثيرون من الضحايا كانوا يحتاجون إلى استماع ومساندة، وليس إلى محاكمة أخلاقية بعد فوات الأوان". فيما يلفت الناشط المدني حيدر سعدي، إلى أن "طبيعة عملي الميداني أتاحت لي اللقاء بعدد من الأشخاص الذين حاولوا الإقدام على الانتحار أو كانوا على حافة ذلك، وتبيّن أن معظمهم لم يكن مدفوعا برغبة في الموت بقدر ما كان واقعا تحت يأس عميق أو ضعف في الوعي بخيارات المساندة المتاحة".
ويضيف قائلا أن "الكثيرين من هؤلاء يعيشون عزلة نفسية وشعورا بانسداد الأفق، في ظل غياب الإرشاد والدعم، ما يجعلهم أسرى لحظة ضعف قد تتحول إلى قرار مأساوي".
جرائم تُسجل انتحارا!
في المقابل، تقول الناشطة علا الأحمد أن "هناك حالات مسجلة كانتحار بينما هي في الأصل ليست انتحاراً، إنما جرائم جنائية يتم تحويلها إلى انتحار من خلال العلاقات بالأجهزة الأمنية ودوائر التحقيق، ما يؤشر تفشي الفساد في تلك الأجهزة التي من المفترض أن تحمي العراقيين"، لافتة في حديث صحفي إلى أن "جرائم جنائية استهدفت عراقيات تم تسجيلها على أنها حالات انتحار، وغالبيتها مرتبط بجرائم الشرف، والعنف الأسري وغيرها، وبالتالي فإن أعداد حالات الانتحار قد لا تكون حقيقية، إنما هناك احتيال كبير يمارس تحت هذا الشعار". ويعاقب القانون العراقي من يحرّض أو يساعد شخصاً على الانتحار بالسجن لمدة 7 سنوات. في حين لا عقوبة تقع على من يشرع في الانتحار، لعدم جدوى العقوبة. كما يرى القانون ضرورة إيداع من يحاول الانتحار في إحدى المصحات، وألا يخرج إلا بتقارير طبية تؤيد معالجته.