اخر الاخبار

خلافا لماركس، لم يحصل انجلز على التعليم الجامعي، فقد كان والده، صاحب مصنع للنسيج، يرغب بأن يكون ابنه تاجرا مثله. لكن شغف انجلز بالمعرفة والنشاط العملي دفعه الى تعليم نفسه بنفسه ليبلغ صف المفكرين والكتّاب البارزين في زمنه، بل ليتجاوزهم أيضا.

كان لإقامته في إنكلترا بين عام 1842 و1844 فرصة له لدراسة الحياة الاقتصادية في هذا البلد الذي كان يحتل موقع الصدارة في العالم الرأسمالي آنذاك، والاطلاع عن قرب على الحركة العمالية الإنجليزية، والتعرف على زعماء الحركة الشارتية. وقد ساعده هذا في تقديم تحليل علمي لعواقب الملكية الخاصة، وكانت نتيجة هذه الدراسة مقالة بعنوان خطوط أولية لنقد الاقتصاد السياسي أنجزها في أواخر عام 1843 وأوائل عام 1844 ونشرها في العدد الأول والوحيد من الحوليات الألمانية – الفرنسية التي أصدرها ماركس بالتعاون مع صديقه الهيغلي الشاب أرنولد روغه عام 1844.

يبدأ انجلز مقالته بوصف الاقتصاد السياسي بعلم الإثراء الذي نشأ من «حسد التجار المتبادل وجشعهم ...المختوم بالطمع» ثم يتطرق الى معرفة هؤلاء التجار مع مرور الزمن ان «الرأسمال القابع بلا حركة في الصندوق هو رأسمال ميت...ولكي ينمو يجب ان يجري تداوله في السوق» لهذا بدأ التجار لا يرون ضررا من «دفع مبلغ أكبر من اللازم للسيد “ أ “ لقاء بضاعته ما دام يمكن بيع هذه البضاعة الى السيد “ ب “ بثمن أكبر أيضا. وعلى هذا الأساس بني النظام التجاري».

ويشير انجلز الى مفهوم الميزان التجاري الذي تقيس به البلدان ثروتها، فهي غنية طالما زادت الصادرات على الاستيراد، ولتذهب الى الجحيم كل الأخلاق والمعايير الإنسانية التي تقف في وجه ذلك، فقد كان «للتجارة أيضا حملاتها الصليبية ومحاكمها التفتيشية».

وبرغم الثورة التي حدثت في الاقتصاد السياسي خلال القرن الثامن عشر «لم يخطر في بال الاقتصاد السياسي ان يطرح مسألة شرعية الملكية الخاصة». ولكي يزداد الطين بللا، ظهرت نظرية الكاهن مالثوس (توماس روبرت مالثوس، الاقتصادي الانجليزي البارز الذي اشتهر ببحوثه عن التكاثر السكاني – 1766-1834) عن السكان (سنتطرق الى تفاصيلها لاحقا) التي يكمن جوهرها في مفهومها الديني عن الطبيعة. فهذه النظرية هي «التعبير الاقتصادي للدوغما الدينية، في ما يتعلق بتناقض الروح والطبيعة والفساد الناتج عن كليهما». لكنها لم تكن فقط دوغما دينية، بل كانت أيضا محاولة لدمج اللاهوت البروتستانتي مع الحاجات الاقتصادية للمجتمع الرأسمالي، أي تقديم تبرير ديني يسمح بالمتاجرة في كل شيء، حتى الأرض التي هي شرط وجود الإنسان من خلال «احتكارها (الملكية الخاصة) من قبل عدد قليل من الأفراد، وحرمان البقية من الشرط الأساسي لحياتهم».

ثم يقوم انجلز بفضح موقف نظرية مالثوس من الفقراء، إذ نستنتج منها «بما ان الفقراء، تحديدا، هم الفائضون، فلا يتعين فعل أي شيء من أجلهم عدا تسهيل موتهم جوعا قدر الإمكان، وإقناعهم بأنه يستحيل تغيير أي شيء في هذا الصدد، وبأن الخلاص الوحيد لأجل طبقتهم يتلخص في التكاثر أقل ما يمكن». وهذا بالضبط هو «ما يحفزنا على وضع حد لإذلال البشرية هذا عن طريق القضاء على الملكية الخاصة والمزاحمة وتضاد المصالح».

وبالتالي فأن القول بأن حالة الفقر هي نتاج لقانون طبيعي أو لحكمة ربانية هو قول كاذب وباطل. إنها بسبب «قانون الإنسان الذي يقف بالضد من قانون الطبيعة»

وفي معرض انتقاده للاقتصاد السياسي يبحث انجلز بعض المقولات الأساسية ويكشف التناقض الذي يولده نظام التجارة الحرة. من هذه المقولات مقولة «الثروة الوطنية» التي يؤكد انجلز ان لا معنى لها «ما دامت الملكية الخاصة قائمة». ونحن أكثر الشعوب تفهما لذلك، فالعراق من اغنى البلدان من حيث الثروة الوطنية لكننا من أفقر الشعوب. ثم يعرج الى التجارة التي يعتبرها «نتيجة مباشرة للملكية الخاصة» وقد نتج عنها عدم الثقة المتبادل بين التجار من جهة، ومن جهة أخرى تبرير كل الأساليب اللاأخلاقية للوصول الى الهدف، ان التجارة هي «خداع يجيزه القانون» ويمكن أن نضيف ويحلله الدين.

ويناقش انجلز أيضا عددا من المقولات التي ستغدو الأساس الذي يعتمد عليه ماركس في كتاباته الاقتصادية مثل القيمة، وخصوصا القيمة الفعلية (عند الإنجليز) أو القيمة الاستعمالية (عند الفرنسيين) وكذلك القيمة التبادلية.

كما يقدم لنا انجلز ولأول مرة فكرة ان العمل الذهني (قابلية الاختراع) يشكل وحدة مع العمل البدني الجسدي، وعلى هذا الأساس تبدو مقولة شغيلة اليد والفكر التي نعتمدها هي الأصح نظريا في ظل التطورات الحاصلة والمتواصلة في عالمنا اليوم.

ويتخذ انجلز موقفا مضادا لممارسة الربا فيكتب «ولكن لا أخلاقية المراباة، لاأخلاقية الحصول على دخل بدون بذل العمل لمجرد منح قرض، جلية للعيان، وعلى الرغم من ان جذورها تكمن في الملكية الخاصة، إلا ان الوعي الشعبي اكتشفها من زمن بعيد وهو عادة ما يكون على حق في أمور من هذا النوع».

ويقدم لنا انجلز تأكيدا على حدوث الأزمات الاقتصادية التي «ستزيد بصورة أسرع فأسرع تعداد أفراد الطبقة التي لا تعيش إلا بالعمل؛ ولا بد بالتالي، من أن تزيد بصورة ملحوظة عدد الأفراد الذين يحتاجون الى عمل – الأمر الذي يشكل معضلة إقتصاديينا الرئيسية، وأخيرا لابد لكل هذا ان يستتبع ثورة اجتماعية».

عرض مقالات: