أعلن رئيس الوزراء، أخيراً، ان العراق استقطب استثمارات عربية وأجنبية بقيمة 100 مليار دولار. جاء ذلك خلال احتفالية يوم الشراكات مع مؤسسة التمويل الدولية (IFC)، بمناسبة مرور 20 عاماً على شراكات المؤسسة في البلاد.
ويرى مراقبون ، أن هناك مبالغة في الأرقام وهي تخفي واقعاً مختلفاً على الأرض، حيث تبينّ المؤشرات أن المشاريع المنفذة، وإن كانت موجودة، فهي تتركز في قطاع الطرق والجسور وبعض المشروعات السكنية المحدودة، دون أن تحدث أي تحول ملموس في الاقتصاد الوطني.
وينبهون إلى أن استقطاب هذه الاستثمارات جاء غالباً عبر منح استثناءات واسعة وإعفاءات جمركية وضريبية، بل ومنح أراضٍ مجانية للمستثمرين، وهو ما أدى إلى فقدان الدولة موارد مالية هامة.
ما الذي يمكن ان يحدثه هذا الرقم؟
100 مليار دولار مبلغ كبير في في بلد مثل العراق؛ فهو كفيل بإحداث تحوّل جذري في البنية التحتية والاقتصاد الوطني؛ إذ يمكن بحسب مختصين أن يغير شكل البلاد بالكامل، حيث انه يكفي لإعادة بناء شبكات الكهرباء وتطوير خطوط النقل البري والبحري والجوي وسكك الحديد، فضلاً عن بناء المدارس والمستشفيات والمجمعات السكنية التي تعالج أزمة السكن المتفاقمة.
كما أن استثمار هذه الأموال بشكل فعّال يمكن أن يخلق مئات آلاف فرص العمل، ويحرّك عجلة الصناعة والزراعة ويقلّل من اعتماد البلاد شبه الكامل على النفط، ليضع العراق على مسار تنموي مستدام طال انتظاره، باختصار يمكن لها أن يغيّر ملامح الاقتصاد العراقي بالكامل.
مبالغة كبيرة
وفي هذا السياق، قال الخبير الاقتصادي صالح الهماشي، إن الأرقام التي أعلنت بشأن حجم استقطاب الاستثمارات في العراق “مبالغ فيها إلى حد كبير”، سيما انها لا تعكس ما هو موجود فعلياً على أرض الواقع.
وأضاف الهماشي في حديث لـ"طريق الشعب"، إنّ “العراق تمكن بالفعل من استقطاب استثمارات في مجالات البنى التحتية والطرق والجسور وبعض المجمعات السكنية، إلا أن حجم هذه المشاريع لا يصل بأي حال من الأحوال إلى الأرقام الضخمة التي يجري الحديث عنها”، مضيفاً أن “الرقم المعلن لو كان حقيقيًا لكان كفيلاً بإعادة إعمار العراق بالكامل”.
ولفت إلى أن “غالبية الاستثمارات دخلت عبر استثناءات حكومية واسعة وخارج الأطر القانونية والضوابط المعمول بها، وهو ما أدى إلى فقدان الدولة موارد مالية مهمة من الرسوم الجمركية والضرائب”.
وأردف الهماشي قائلاً أن “الحكومة منحت الكثير من التسهيلات للمستثمرين، وصلت في بعض الحالات إلى منح أراضٍ مجانية، الأمر الذي تسبب بتنازل العراق عن جزء كبير من حقوقه الاقتصادية”.
وأشار الهماشي إلى أن “الفساد الذي شاب بعض العقود الاستثمارية زاد من هشاشة الجدوى الاقتصادية لهذه المشاريع، خصوصًا وأن نتائجها الفعلية على الأرض ما تزال محدودة، ولا تتناسب مع ما أُعلن من أرقام”.
ويقدر المتحدث حجم الاستثمارات الحقيقية بانه "لا يتجاوز حاجز المليار دولار، وهو رقم متواضع جداً قياساً بالخسائر المتحققة من الإعفاءات والامتيازات التي حصل عليها المستثمرون”.
وختم حديثه قائلاً ان "ما تحقق من استثمارات كان يجب أن يكون رافعة للاقتصاد الوطني، لكن طريقة إدارة هذا الملف أفرغته من محتواه التنموي، وحوّلته إلى وسيلة لزيادة الهدر المالي والتنازل عن موارد سيادية كان يمكن أن تعزز موازنة الدولة وتقلل من اعتمادها على النفط”.
أين أثرها؟
من جانبه، علق الباحث في الشأن الاقتصادي سرمد قصي على الخطاب الرسمي المتعلق بملف الاستثمارات الأجنبية في العراق، ووصفه بانه يندرج ضمن خانة الدعاية الانتخابية غير المباشرة، مؤكداً انه يحتاج إلى مراجعة جذرية، لأن الأرقام المعلنة لا تنسجم مع الواقع الاقتصادي، ولا مع طبيعة المشاريع المنفذة على الأرض.
وقال قصي لـ"طريق الشعب"، ان "المبالغ الكبيرة التي يجري الحديث عنها، لو كانت دقيقة لكانت كفيلة بإحداث تحوّل جذري في البنى التحتية والخدمات العامة، غير أن ما تحقق فعلياً يقتصر على مجموعة مشاريع إنشائية محدودة في قطاع الطرق والجسور وبعض المجمعات السكنية، وهي لا ترتقي الى مستوى تلك الأرقام الضخمة وحجمها المهول".
وأضاف أن "جذب الاستثمار الأجنبي لا يُقاس بحجم المبالغ المعلنة، بل بمدى اثره على ارض الواقع، ومساهمته في تنويع الاقتصاد وتوليد فرص العمل وتحريك القطاعات الإنتاجية". كما أشار ان "الواقع الحالي يُظهر ضعف الأثر التنموي لهذه المشاريع بسبب الطريقة التي صيغت بها العقود والتسهيلات الممنوحة للمستثمرين".
وأكد أن "التعامل مع ملف الاستثمار بطريقة تسويقية قائمة على الأرقام الكبيرة دون نتائج ملموسة، يضعف ثقة الشارع ويؤثر سلباً على صورة العراق أمام المستثمرين الجادين، لأن الفجوة بين التصريحات والواقع تولّد انطباعاً بعدم المصداقية".
ودعا في السياق الى "إعادة بناء السياسة الاستثمارية على أسس جديدة، تقوم على الشفافية في إعلان الأرقام، ووضع معايير دقيقة لتقييم العقود، وضبط حجم الإعفاءات الممنوحة بما يحفظ التوازن بين تشجيع المستثمر وحماية مصالح الدولة".
كما شدد في ختام حديثه على ان "الاستثمار الحقيقي هو الذي يترك أثراً اقتصادياً ملموساً، ولا يكون مجرد أرقام تُضخ في الخطاب الإعلامي".
دعاية انتخابية
إلى ذلك، أكد المراقب للشأن السياسي داوود سلمان، إن الحكومة الحالية تتعامل مع مختلف الملفات بعقلية دعائية بحتة، مبيناً أن الأرقام الضخمة مثلاً التي يجري الترويج لها في الإعلام ليست سوى وسيلة للتهويل السياسي وتسويق إنجازات وهمية قبيل الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.
ونوه سلمان في حديث لـ"طريق الشعب"، إلى ان "التجربة العراقية أثبتت أن الحكومات المتعاقبة كثيراً ما تلجأ إلى المبالغة في الأرقام والوعود من أجل كسب الشارع، بينما الواقع على الأرض يكشف محدودية هذه المشاريع وعدم قدرتها على إحداث أي تغيير جوهري في حياة المواطنين".
وأشار إلى ان الحكومة الحالية "ليست استثناءً، فهي تكرر ذات النهج عبر تضخيم الأمور في مختلف الملفات، والتغاضي مثلاً عن حقيقة أن معظم ما أُعلن عنه أخيراً، جاء عبر استثناءات وامتيازات على حساب موارد الدولة".
وشدد المراقب السياسي على أن "المواطن بات يدرك أن مثل هذه الأرقام تُستخدم كأدوات انتخابية لإقناع الجمهور بإنجازات غير موجودة فعلياً"، محذراً من أن "التمادي في هذا الخطاب الدعائي يُعمّق فجوة الثقة بين الشارع والطبقة السياسية، ويزيد من حالة العزوف والإحباط الشعبي".
وأتم حديثه بالقول "إذا أرادت الحكومة أن تُقنع الشارع فعلياً، فعليها أن تقدّم مشاريع ملموسة على الأرض بدل الاستمرار في لعبة الأرقام، لأن زمن التهويل الإعلامي انتهى، والناس باتوا يحاسبون بالأثر لا بالشعارات".