لا شك في أن المثل أو الحكمة المتداولة (اليد الواحدة لا تصفّق) لها دلالة اجتماعية، تشير إلى التعاون، والتكاتف، والتلاحم في مواجهة أخطار الحياة، وفي صناعة الأشياء التي تكون بحاجة إلى توحد في صوت الجماعة. وكثيرًا ما ارتبطت دلالة اليد بمعنى القوة والإرادة ومنها قوله تعالى "يد الله فوق أيديهم"؛ وقد تدل على الكرم والعطاء والسخاء، وهذا ما جسده المثل العربي الجاهلي "الأيادي قروض”..
ولست - هنا - في موضع كشف وتوضيح دلالة اليد ورمزية توظيفها في الثقافة العربية والإسلامية؛ وإنما في موضع تسليط الضوء على دلالة اليد في توافقها مع اليد الأخرى، من منظور (قبلي!) يعظّم من فكرة ( الجماعة ) مقارنة بـ ( الفرد ) وثقافة ( الإجماع ) مقارنة بـ ( الرأي المفرد ) .. ومن هنا فإن (الرأي هو رأي القوم!) كما يقول المثل العربي و (مَنْ يرافق عليه أن يوافق!) أي أن آلية الإجماع هي أولى متطلبات (الصواب). فهذا الحديث صحيح لأنه (متفق عليه). وذاك التفسير خاطئ لأنه رأي(فردي).. ولعل من أهم الأسباب التي دعت إلى ترحيل ابن رشد من قرطبة أنه دعا إلى الأخذ بالرأي الفردي وعدم الاتكال كليا على الإجماع. بتعبير آخر دعا إلى التأويل ليكون المحفّز الرئيس لاستنباط المعنى .
ومما لا شك فيه - أيضًأ - أن النظام الديمقراطي، الهادف إلى مأسسة الدولة وبنائها على وفق أطر قانونية، يحتاج، أول ما يحتاج، إلى غياب الفاعلية القبلية والفاعلية الدينية، اللتين تقومان على ركيزة (الإجماع) تحت شعار ( اليد الواحدة لا تصفق ). ومن هذا المنطلق يكون الفرد والجماعة في سلة واحدة إزاء القانون، والنظام، والحقوق والواجبات.. ولا أعني هنا النظام السياسي القائم على الانتخابات، والذي يرتكز بالضرورة على الأغلبية والجماعة، وعلى مصافحة اليد لليد، فهذا أمر مفروغ منه في كل التجارب الديمقراطية في العالم الغربي وفي العالم العربي.. إن وجدت في العالم العربي ديمقراطية حقيقية أصلًا! فالنظام فيه عادة ترقيعي هش يقوم على التزويق والتبرقع بالقشور الفلسفية للديمقراطية ويحاول أن يعكس صورة مطرّزة بالألوان عن تبنيه للنظام الديمقراطي، ومن خلال نسبة تمثيل المرأة في البرلمان، عبر حيل سياسية متعددة من أفضحها نظام الكوتا.
ولك أن تتخيل حجم الصواب الفردي الضائع بسبب شيوع الخطأ الجماعي الشائع! لك أن تتخيل حجم الحريات الفردية المقيدة نتيجة هيمنة الأنساق المحافظة الجماعية على جسد المجتمع.. ولك أن تتخيل أكثر وأكثر أن يد المرأة خارج منظومة المؤازرة أًصلًا؛ إذ لا يحق لها أن تكون شريكة في تكوين الإرادة، لأن يدها (عورة) ومن ثم فالمصافحة حرام! والمرأة التي تصافح الرجال ستحترق بنار سقر!
هذا ما وعدنا به الفقه وليس (النص)، هذا ما حذرَنا منه القائم بالأعمال الدينية وليس النص السماوي الصريح.. فالنص الديني هو ما يقرأه الفقيه، وتتفق على معناه (الجماعة).. كذلك هذا ما خوّفنا منه شيخ القبيلة ورب الأسرة والمدرسة والجامعة.. كل هذه (المؤسسات) تعلم النساء ألّا يمددن أيديهن للترحيب بالرجال. ولنتذكر كيف أن رئيس وزراء سابق عندنا في العراق الديمقراطي، لم يصافح فنانة عراقية معروفة واستاذة جامعية، يوم قابلته في مبنى رئاسة الوزراء..
نعم، يد المرأة مقصيّة خارج نظام (الحلال)، خارج نظام المشاركة في العمل، خارج نسق التصفيق. لأن ذلك حرام.
فكيف لها أن تصفّق وهي يد واحدة ؟