اخر الاخبار

يوم السادس عشر من يناير،  في تلك الساعة المبكرة  من فجر يوم الاثنين ،  تعامد برج الجدي  في اقتران استثنائي مع مدار نيبرو ، اقتران لم يعهد او رأى مثله  طوال حياته التي امضاها يجول ببصره  متاهات السماء وهو يقرأ ومضات الضوء الخافتة التي تخبره بما سيحدث ، في تلك الساعة المبكرة من يوم الاثنين ، كان يعد نفسه للصلاة  في محرابه  المتواضع  ، بعد ان اشعل شموعه وطيب مخدع الاله بالبخور ، شعر بالغبطة تعيد ترتيق شيخوخته بالامتلاء والقوة بعد ان لمح المعجزة  تحدث في افق السماء التي اخذت تتململ وهي  تستعيد يقظتها بضوء الفجر الهادئ .

ما قبل اليوم الاول

لم يكن هناك تقويم بعد ، لازمن يعدد له اللحظات التي تمضي  ولا مكان  يحدد وجهته ببوصلة ما او اسطرلاب يقاطع الافق البعيد بنجم القطب  ،  ثمة ضوء فحسب ، ضوء ساطع  ومخلوقات  هلامية شفافة تعوم في الفراغ ، كان  وحيدا جدا ، ينوء بمخيلته التي تضج بالصور والاحداث  ، كان مرتبكا بالأحرى لم يكن  يعرف باي الاشياء يبدأ ابديته في عزلته العريقة  ، امضى ساعات ظهيرته تلك ، يتجول في منتجعه الابدي ، يستطيع ان يفعل اشياء كثيرة في تزامن واحد  ، ان يفكر ويتكلم ويصنع ويرى ما سيحدث ويتذكر الاشياء التافهة كما يتذكر المفترقات الصعبة ، حاول الهروب من الملل الذي شعر به ، اذ انهمك ينظر الى العدم ، ليس هناك ثمة شيء يمكن الكتابة عنه ، كيف يمكنك وصف شيء لاوجود له ؟!،   اسند ظهره الى الشجرة العتيقة باغصانها المتشابكة التي بدت كأمرأة  مسنة متهدلة الوجنتين  بثمارها المحرمة، يشغل وحدته بتدخير سنارته بيرقة خنفساء ذهبية التقطها وهي تحاول  قضم قشرة الثمرة الناضجة ،  وكانت مياه ،  ما ان تطلع الى النهر العميق بضفتيه الضحلتين بالمياه الساكنة  التي بدت مثل لوح زجاجي ، في تلك اللحظة ، تفتقت مخيلته عن سرب اسماك ملونة بزعانف لينة تتمايل كالريش في التيار المتدفق، الامر غير مجهد ، فالأشياء التي يرغبها لا تتطلب منه سوى ان يفكر بها  لكي تنبثق في لمح البصر ، شعر بالغرين ورائحة التراب حينما شم  اصابعه التي تلطخت ببقع الوحل  وكان الطين  ، شيئا فشيئا  ، كانت الاشياء تمد راسها وتستطلع الوجود الاول ، القواقع  والحلزونات التي مدت مجساتها اللزجة ، اينما تطلع كانت الاشياء تنبثق من العدم  ، ثمة سرب عصافير  وزقزقات  هنا وهناك ، قطيع غزلان  مرت بالجوار ، كانت تتطلع بدهشة  قبل ان تتوارى بين جذوع الاشجار الغليظة .

في تلك الظهيرة ، استل الصلصال اللين  وشكل بين اصابعه قوامها المثير قبل ان تشهق بانفاسها الاولى . 

ما بعد ظهيرة  الثلاثاء  من شهر اذار عام 1975. لم تكن انت بعد ،  كان موسما غريبا بالأحرى كان موسما متطرفا ، تفتقت مخيلة الشتاء ليكشف لنا عن مهارته في ابهارنا بتحولاته ، وابل المطر الشديد الذي انصب  لايام  غمر الطرقات فيما يشبه طوفان من الوحل والقطط والكلاب النافقة، بينما الزوابع العنيفة التي اطلقت بروقها تجلد ظهر الارض ، شطرت الاشجار المعمرة بجذوعها الضخمة الى نصفين ، كان يخدعنا بظهيرة  دافئة بنصف شمس  تتفادي  مشاكستنا  بالاختباء وراء غيوم كسولة  ليباغتنا  بعاصفة غاضبة ، اقتلعت شجرة المشمش بجذورها واطاحت بالنخلة صاحبة العذوق الاربعة .

بلامبالاة تلقت نظراته القلقة وهي تقطع بخطواتها المتمهلة الممر الضيق الذي اختنق بدوامات الدخان  و الموسيقى الصاخبة التي تبددت في  الثرثرة التي اختلطت بالقهقهات الناعمة والاصوات الخشنة التي تصاعدت في الفضاءات المغلقة .

يمكنها ان ترى احدهم بطرف عينيها وهو يرمق قوامها اللين الممشوق باشتهاءات عميقة ، لمحته وهو يشير اليها بطرف عينه  بينما انشغل صديقه يتفقد صدرها بنظراته،  كان صدرها الناضج يهتز، مع كل خطوة يلامس فيها طرف كعبها العالي الممر الصقيل ، لم تر ضرورة  تمويه ابتسامتها ، حين عمد احدهم الى لكز خصرها بمرفقه ، حتى انها لم تلتفت اليه فيما هو  يجوس بنظراته تقاطيع انوثتها  التي تضج  بالرنين ، اهملته وهي تجتازه في طريقها الى طاولتها المعتادة .

هناك في الركن القصي قرب الواجهة الزجاجية  في كرسيها البلاستيكي  الاحمر، ستكون الانثى التي لا تستطيع ، مهما حاولت للإفلات من سطوة انوثتها ، مراوغة الوقوع في سحرها الانثوي الغامض ، هي تدرك ذلك ، تعرف انها مثيرة ، تعرف كيف تلامس الوتر المشدود  بأطراف اصابعها ، فتغرق الجميع في طوفانها ،  وفي الوقت نفسه هي المرأة  العصية التي لا يمكن خداعها بمواعيد ضالة ، فهي  ليست بالطريدة التي يمكن اصطيادها بلا ثمن .

الساعة الخامسة عصرا يوم الثلاثاء

التنورة الضيقة كشفت انحناءات  وركها الانثوي ، ومؤخرتها المستديرة بفخذها المفتول وتقاطيع ساقيها الممتلئتين .

 نفثت دوامة دخان كبيرة وهي ترمي برماد سيجارتها في المنفضة الكرستالية ، تطلعت حولها ببطء ، كما لو كانت لبوة جائعة تنوء بأنوثتها واشتهاءاتها ،  تفتش الطاولات والمقاعد عن ضحيتها المقبلة ، ستمتص عصارته وسترميه كحيوان نافق بجلد مجعد ووجه شاحب،  سيعيش احزان ذكرياته التي سترافقه لزمن طويل:

يتذكر فخ انوثتها وهي تطويه بذراعيها ، رمقته بنظراتها ،  كانت عيناها تغوصان في  اعماقه ، حتى تعرت روحه ـ شعر بعريه امامها  ، بات مكشوفا  لها  ، لا شيء هناك يستطيع اخفاؤه عنها ،  شعر بها تهتك اسراره ، لم يجرؤ على مبادلتها نظراتها المتسائلة فحاول التخلص من تعثره  بالهروب في حديث هامس مع جليسه الذي لم يعد له وجود ، هي تعرف تخبطه وخوفه ،  اليست هي الانثى المحترفة ، التي تدرك الاسرار،  خالقة المتعة  وصانعة المواعيد، وهو ليس اكثر من  فتى غر تعوزه التجربة لكي يفهم المرأة ، لم يستطع الافلات او الهروب من سحرها  سوى للحظات ،عندما استدار برأسه ينظر اليها عبر الدوامات والثرثرة والموسيقى الصاخبة ، شعرت به صبيا وديعا اكثر مما يجب ، وهو الامر الذي يفتنها ويؤجج شغفها ، فالفتى البتول هو الذي يلهمها في عواطفه واحاسيسه ، الصبي البكر الذي لم يكتشف بعد اسرار الانثى ولم يتذوق عسل مفاتنها السرية ،  شعرت باسراره العميقة تطفو على وجهه الطفولي الاملس، وجها فتيا لم يتخلص بعد من البراءة الاولى ، ستلهم حقوله، او ستدنس براريه العارية بالأزاهير، وستشعل في ذاكرته الف محرقة ، حتى لن يعود يرى في حياته سواها ، كانها ترسل دوامة غنج عبر حلقات الدخان الازرق الذي تصاعد في الهواء ، فيها اشتهاءات ورغبات نفثت دوامة دخان سيجارتها  حتى لم يعد يرى شيئا سوى تقاطيع وجهها  الحليبي المشوب بلون زهري خفيف وفم شهي ينفث دوامات زرق في الهواء الراكد.

عرض مقالات: