لم يحل الشتاء بعد، ومواسم المطر بدت بعيدة،  بينما الطرقات المهجورة تختنق بدوامات الاوراق المتساقطة، كما لو كانت مسلات للفاقة، انحنت اشجار الاكاسيا الافريقية العتيقة والسدر العجوز، التي ظللت الممر الطويل بفروعها المتشابكة، التي تدلت كأذرع ذاويه استسلمت لقدرها، يمكنك ان تواجدت في تلك اللحظة التي تطلعت فيها حولي، حينما كنت في منتصف الطريق الى وجهتي الاخيرة، ان ترى الزوبعة التي اعترضت طريقي، كانت تدور حول نفسها بخطوات متعثرة، وهي ترتطم بجذوع السدر العملاقة والكالبتوس الضخمة المتشققة، وترتطم بجدار مقبرة الارمن الأرثوذكسية بقبورها المزينة بأيقونات السيدة العذراء، التي بدت لصبي في العاشرة الذي كنت، امرأة فتية تحتضن صبيا جميلا ناعما، كانت امرأة صبية في مقتبل العمر، بتقاطيع وجهها الحزين ونظراتها المتسائلة، باستثناء دهشتي، كانت المرة الاولى التي ارى فيها تمثالا استطيع لمسه،  حاولت ذلك عندما تحسست ملمسها الخزفي اللامع  وانا انظر الى جمال التمثال المزجج بالوان براقة، هناك صلبان  فضية  تحمل جسد  قربان الاله بوضعيات  مختلفة ،  هناك ايقونة لرجال مفجوعين يتلقون الجثمان الهزيل وهو ينزلق عبر الصليب الضخم  بينما اكليل من الاشواك بنهاياتها المدببة تنغرز في جبينه الشاحب، هناك مسنون ورجال ملتحون وفتيات وعجائز يتطلعون اليه بخشوع وحزن، هناك تمثال للمجدلية التي تنظر الى العذراء التي احتضنت التقدمة الكبرى بذراعيها تحت عريشة عنب، ايقونات وتماثيل نصفية لرجال في العقد الخامس هناك تمثال رخامي لصبي في مثل عمرى،  ينظر الي كما لو انه  يبتسم، عند نهاية الممر الطويل، الذي ينتهي عند المفترق الذي يقودك الى زقاق ضيق، ينتهي هو الاخر عند حافة ميدان المدينة الكبير، قلب المدينة الشاحبة بسحنتها النحاسية، التي بدت تعيش اوقاتها الاخيرة ، كانت دوامات الزوابع الضالة تتخبط في طريقها وهي ترتطم بجدار المدفن الطويل، الذي شيد بالآجر والكلس، ببوابته الخشبية القديمة، بظلفتيها التي دهنت بطلاء اخضر داكن، ان تطلعت الى قمة النخلة السامقة سترى برج الكنيسة وناقوسها البرونزي الضخم، الذي لم يعد يرسل دقاته الحزينة المتمهلة في فضاءات المدينة كما في تلك الايام الغابرة حين يذكر رعيته بتضحيات الثالوث المقدس،  يمكنك ان ترى احدهم وهو  يزيل بمجرفة عريضة بقايا التراب التي اعترضت طريق التابوت الفخم اللامع بمقابضه الفضية، الكهل مربوع القامة، الذي امسك بمقبض المجرفة الخشبي القصير، غادر الحفرة  ينتظر في الانزواء المهمل بعد ان وجد له مكانا وراء المودعين، نساء مسنات متشحات بالسواد، للحظات مليئة بالحزن، تطلعن  فيها بهلع الى الهوة العميقة التي تنتظر التابوت، هناك رجال ببدلات انيقة بسحناتهم المتوردة وعيون محتقنة، يجففون انوفهم  بمناديل ورقية معطرة، الزوبعة التي اعترضت طريقي كانت تخور وتتلاشى في دوامة الاوراق والغبار والمناديل الورقية التي حلقت كنوارس نافقة، بينما انشغل الكاهن وهو يتلو في الكتاب المقدس، ولكنك لم تكن هناك كيما ترى المشهد المهيب حينما  القى الكاهن بعد ان اغلق كتابه الصغير ، حفنة تراب فوق التابوت اللامع بمقابضه الفضية، لينهال الرجل الذي انسل عبر الاخرين بمجرفته العريضة، يردم الحفرة بكومة التراب المبلل بالمطر التي تلقته للحظات حينما عبرت سماء المقبرة غيمة هزيلة،  تسللت رائحة التراب الرطب الى انفي  بينما عفن ما  يعوم في المكان، رائحة الموت التي اختلطت بالخوف كانت شديدة الوطأة.

لن يحل موسم المطر، بعد ان حلت لعنة القحط والجفاف، لم تعد هناك مواسم تتوعد المدينة بالطوفانات كما كان يحدث في الازمنة الغابرة، كل شيء بات هزيلا، اشياء كثيرة نفقت ، النهر الذي يخترق المدينة فقد دواماته التي اعتادت الارتطام بأعمدة الجسر المستديرة التي استند عليها الهيكل الضخم، خسر نوارسه وضفافه التي اغلقت بالأسلاك الشائكة ولوحات التحذير التي تهدد بأطلاق النيران المميتة، حتى المباني بواجهاتها المغبرة، بدت كأعمدة بوجومها كشاهدة على الخراب، الذي تسلل الى المدينة، التي تحاول استعادة تماسكها فيما خطواتها تترنح لحظة انهيارها الوشيك.

 تفقد معطفه الصوفي الطويل بحزن يفت في عضده حينما تذكر  ايامه القديمة، حانة الجندول التي أضاءت ركن شارع سينما سميراميس، بنيونها الابيض الذي يشعرك بالبرد اللذيذ، بينما النادل الانيق ببدلته والوردة السوداء التي عقدت ياقة قميصه الابيض، وهو يحمل برشاقة محترف صينية زجاجة النبيذ وكاس الكريستال، يشعرك بمتعة اللحظة، ولكن، كما انت انا ادرك ان الماضي يندثر ابدا، والزمن يتراجع طوال الوقت ، ها هو بوجهه الملبد بخرائط احزانه القديمه والتغضنات، يحاول الافلات من قبضة ماضيه، التي تقطر في حيزومه الم ذكرياته القديمة، التي لم يعد لها وجود، يحاول هو الاخر ان يعثر على مجرفته الاخيرة ليطمر الامه، يحاول ان يسترد تماسكه ليعيش لحظاته او ما تبقي له من زمن مخادع لا يمكن مراوغته ، تفقد معطفه الطويل الفضفاض وهو يخترق الممر بينما عاصفة المطر تصفع وجهه بالبرد، شعر بالانتشاء وهو يقتطع الممر المبلل في طريقه الى موعده الاول، تحسس حبات المطر التي علقت بخصلات شعرها وبللت وجهها الشاحب المشوب بلون زهري.

كنت تتفادين المطر بكفيك  بينما الاردية اللينة التصقت بقوامك الضامر، فمك يشبه ثمرة كرز ناضجة بلون الدم وانفك المستقيم وحنكك المدبب وخصلات شعرك النحاسي، مررت اصابعي اتحسس وجنتيك الناعمتين بملمسهما المخملي، دثرتك بمعطفي ونحن نترك لخطواتنا ان تقودنا كما شاءت عبر الممر الطويل نصف المعتم،  تحت عتمة اشجار السدر العملاقة  نصنع قبلتنا الاولى التي توهجت وراء جذع شجرة سدر عجوز، انها الذكريات العتيقة التي تقفز الى الافق كلما حاولت الهروب، وانا احتسي كؤوس عديدة في حانة قديمة انزوت في شارع ضيق تحتضن رجال في نهاية عقدهم الخامس يحاولون الفكاك من ماض يطاردهم بأزمنته الغابرة.

عرض مقالات: