كانت الحرب تقضم عامها الاول، انت، لسبب مجهول، كتمت سر مغادرتك الموعد الذي سيضمك الى حبيبك، الذي يبدو صبيا اكثر مما يجب لشاب في العشرين، كنت في حينها في ربيعك السابع عشر، وهو في نهاية عقده الثاني، فيما بعد تلقيت خبرا سيئا جعلك تشعرين بالحزن، في ذلك المساء اخبرتك شقيقته الصغيرة، حينما استفسرت عن الضجة والناس الواجمين بوجوههم الحزينة عند باب منزلهم، قالت لك وهي تصعد نشيجا قاسيا، بان شقيقها فقد في المعركة ومصيره غامض، كانت الحرب تشحذ انيابها الفولاذية بهياكل الصبيان والمراهقين، وهم يموهون ذعرهم بالخوذ والخنادق.
مرت ايام طويلة، اكثر مما تستطيع الذاكرة حينما تحاول استعادة تلك الاحداث ، ولكنه لم يعد، حتى عد قتيلا لم يعثر على جثته التي تبددت هناك في قلب المستنقعات البعيدة، اقامت عائلته جنازة بتابوت مملوء بالتراب الملطخ بالدم، تراب المستنقع الذي جففته القذائف والنيران، الذي سفحت فيه دماء الجنود صغار السن، اراد والده ان يشيد ضريحا لابنه المفقود، الامر الذي رفضته امه، لأنها كانت تأمل عودته يوما ما.
قالت له: لم يمت وسيعود الي وسأذكرك!
السنوات التي توالت ستقشط ما خلفته الزوبعة، التي اقتلعت شجيرات الصفصاف الصغيرة واطاحت بشجرة السدر الضخمة، السنوات ستعيد الضوء عبر الستائر السمكية التي اسدلت على نوافذ الغرفة المهجورة.
كنت بقوامك الرشيق تلفتين انتباه الصبية المراهقين، يمكنك ان شئت الاطاحة بالفتى عريض المنكبين، كنت تسلبين قدرته على الفرار من سطوتك حين تسكبين نظراتك في عينيه، تعرفين بانك ستصعقينه بضفائرك المجدولة كطفلة في العاشرة، ستطوحين به كقربان هش يقاد الى المذبح وهو يطلق ثغاء ناعما، يكشف عن تضرعاته واشتهاءآته وخوفه، سيجف ببطء كتمثال من كلس وطين وسيتحول الى كومة حجر مسلوب الارادة، كم انت قوية ولا يمكن الفوز بقلبك المجالد، تغدقين على الاخرين بهباتك المثيرة، تشدين فستانك وانت تلتقطين شيئا ما تعمدت اسقاطه، كل شيء فيك مثير وساحر.
منذ سنوات ابعد لا يمكن العودة اليها بالكلمات او بالسرد، كنت صيدك او بالأحرى طريدتك ، التقطت بأنفك رائحتي ونسجت حولي شرانقك العديدة.
حين غمرتني رائحة انوثتك بت اكثر من طريدة مسلوبة الارادة قلت بصوت هش :
- ابحث عن مكتبة ؟
- مكتبة!؟
- ابحث عن رواية لماركيز
- ماركيز ؟
- عذرا انت ترد سؤالا بسؤال ؟
-انها المرة الأولى التي تسالني فيها فتاة عن مكتبة فكيف براوية لماركيز؟
- اتعرفه !؟ اعني يبدو وكأنك قرأت لماركيز!
- قرأت "حب زمن الكوليرا"
تنفست الصعداء وهي تمد ابتسامة بلون الضوء على شفتيها، كانت اسنانها صغيرة وناصعة البياض
- انها هي الرواية التي ابحث عنها !
- ما رايك ان اعرتها لك؟
- سأكون لك ممتنة جدا، تساءلت وهي تنظر في عيني، ولكن اين القاك ؟
- اخبريني انت .
- ما رايك ان نلتقي غدا في الرابعة عند بوابة الثانوية، يمكنك ان ترافقني الى المنزل لأني ساكون وحيدة بانتظارك
بعد سنوات عديدة انقضت ، لم اعد أتذكر مواسم المطر والخريف والشتاءات والقيظ، باستثناء الرجال المسنين الذين علقت بذاكرتهم قصص الحرب ،
كنت وحيدا استعيد تلك اللحظات، التي علقت بذاكرتي بخطافات حديدية، لمحتك من بعيد وانت تنتظرين ليس بعيدا عن بوابة ثانوية البنات ، انفصلت عن زميلاتك، كنت تلوحين لهن، للحظات انهمكت ترتبين هندامك، الفستان الازرق والقميص الابيض بنصف كم ، يظهر جانبا كبيرا من ذراعك، كنت رشيقة وفتية وجريئة .
افتقدك، وهو الامر الذي يحدث كثيرا طوال الايام الماضية، التي مرت عليّ بساعاتها المملة برتابتها، لم اجد تفسيرا لغيابك، الذي بات اعتيادا على الرغم من ابتكاري لك حزمة مبررات كبيرة، كيما ابرر لنفسي الساعات الطويلة وانا انتظرك، كرسي بلاستيكي قبالة الواجهة الزجاجية بلونها النحاسي، وطاولة بمنفضة سجائر وكوب قهوة وجريدة مطوية تظهر جانبا من قصيدة مترجمة لجاك بريفير، تتحدث عن انتظار احدهم في مقهى، يطل على رصيف معبد بقطع الرخام، عن كوب الكاكاو بالحليب بمذاقه الحلو، ملعقة سكر اكثر قليلا مما يرغب بتذوقه، بينما النادل بقميصه الابيض وسرواله الاسود، كان شابا في منتصف عقده الثالث، يحمل بيده اليسرى، صينية صغيرة رصت عليها ثلاثة اكواب قهوة، بنكهة قوية دست رائحتها في انفه ، كنت انتظرك طوال الوقت، غير مبال بتحولات عقارب الساعة الجدارية، ولا بالمظلة التي اعدت للنساء والرجال الذين يمضون وقتهم بالصمت وهم ينتظرون الباص الاحمر، المظلة باتت المزولة التي تخبرني عن الوقت، بتحولات ظلها على الواجهة الزجاجية، بلونها النحاسي الاصفر المحمر، غيابك اكثر قليلا من صعب، واقل كثيرا من موعد مزيف اخدع به نفسي، اتدثر بمعطفي وانا اشبك ذراعي مشغولا بانتظارك، اضع ساقا على ساق تحت الطاولة، كنت في لحظات تأمل مديدة اشكل صورتك، وانت تقطعين بخطواتك الحذرة الشارع، تتفادين السيارات المسرعة، كنت ارى انزلاق الشمس البطيء صوب الغرب، ولكنك كما في الايام الماضية، لم ار في الطرف الاخر من الشارع المرأة التي تشبهك، كنت وحيدا جدا احتضن كوب القهوة و كانت بمذاق شديد المرارة، اخبرت النادل بان تكون غير محلاة، كان الرواد يغادرون كراسيهم، بعضهم يجلس للحظات لتناول القهوة او الاسبريسو او حتى الشاي بالحليب، كانت الجريدة المطوية، وهي تظهر جانبا كبيرا من القصيدة المترجمة للشاعر جاك بريفير، في مكانها مع كوب فارغ، كان الرجل الذي اعتاد انتظارها طوال السنوات الاخيرة يدس عملة ورقية بفئة صغيرة كبقشيش تحت الكوب، قبل ان يغادر الى معتزله وهو يحتضن مؤونته، كيما يواصل انتظارها في مخدعه البارد الى ما لانهاية.