اخر الاخبار

الوقت تخطى أزمنة الليل بقليل، كانت الأمطار الغزيرة تجلد سطوح المنازل، وتثقل المعاطف التي تعتمرها الأجساد المقشعرة، أسير ببطء وخطواتي تنزلق فوق الرصيف لكنني أحاول أن أضبط توازني فوقه ما استطعت. أرجو ألا تكلفني هذه الأمطار انزلاقة،  لا بدَّ لي أن ألملم أيضا طرفي المعطف بيدي المرتعشتين من البرد حتى لا أتكبد عناء فايروس يدخل جسدي المنهك من تراكم المسؤوليات.

رأيت أن أشعل سيجارة، لكنني قلت في نفسي أنَّ رذاذ السحب سيطفئها حتماً .

تساءلت أيضاً :لِمَ فكرت بسخافة هكذا، كبحت توارد الأفكار عندي عندما فكرت أن أخرج عن عالمي المكتبي الذي اعتدته وسجن البدلة الرسمية والحمايات التي من المؤكد أنها تكملة لبروتوكول المسؤول، عندما شارفت مدخل مقهى القراء. نفذت إلى فضائها مهرولاً، لتتلقاني بدفء جوها فتنتعش أنفاسي المضطربة شيئاً فشيئاً. سحبت الكرسي البلاستيكي ثم اقتعدته متهالكاً، على المنضدة وضعت مفكرتي. سحبت القلم من داخلها، ثم مددت فوقها الورقة البيضاء التي كانت مطوية داخل جيب معطفي في شيء من الإهمال. ثبت النظارتين أمام عيني الغائرتين، من مشاغل الوظيفة، كانت عشرات القصص تمور في مخيلتي.. تتراقص.. تتزاحم.. كي تعانق بياض الورقة.. وصبي القهوة يضع الآن أمامي فنجان القهوة المعتاد المسكوب في صحنه القليل من الشاي، ولكن اضطررت إلى وضع منديلي تحته فعاودني بلحظة خاطفة احساس المسؤول.

توقفت قليلاً عن الكتابة ولاحظت شخوص القهوة وأنا واحد منهم بعيد عن عالمي الكوني بصفتي وزير ثقافة.

بدأتُ مشاهداتي الأولى إلى مرتادي المكان، فوجدت رجلاً استدار بعينيه لي فجأة مودعاً لم أكن أعرفه ، تابعت خطواته بعينين مشدوهتين حتى اختفى وسط زحام الشارع.. عدت إلى نفسي وأنا أتأمل القلم في إعجاب. ألقيت نظرة على الورقة التي أخرجتها من معطفي  ووجدتها باليةً، كانت تصفر وتتآكل وتتقادم أمامي بشكل رهيب. كيف أضيع حبر هذا القلم الفاخر وهو الوحيد الذي بقي معي، بعد أن نفضت عني كل غبار المنصب، في ورقة بالية كهذه.. إني إذن غير عادل!! رشفت من الفنجان رشفات متتالية ثم غطيته بالورقة. قمت متوجهاً إلى أقرب مكتبة وفي نفسي رغبة في اقتناء ورقة تليق بقيمة قلمي الفاخر، وعند وصولي، كان عليَّ أن أنتظر الكتبي حتى يفرغ من تقديم كتابين إلى سيدة في عقدها الرابع تقريباً . نفحته بالنقود، فتقدمت لأسأله عن قائمة بأنواع الأوراق وجودتها. تأبطت السيدة الكتابين وهمت أن تخرج. وعندما تطلعت إليَّ استقرت نظراتها عندي حسبتها عرفتني، ولكن سألت عن القلم الذي تألق في يدي. سألتني بابتسامة بهية:

- اسمح لي أن ألقي نظرة على قلمك الجميل؟

قلت لها وقد سبقني القلم إلى يدها:

- بكل سرور، تفضلي!

تلقفت القلم بحبور. قالت والابتسامة لا تزايل شفتيها:

- ما أجمله! قل لي، من أين اقتنيت هذا القلم؟

قلت وقد استنفرت أصابعي لاسترداده:

- إنه هدية.. سيدتي!

قالت متجاهلة يدي الممتدة:

- بعه لي، أرجوك!

قلت مراوغاً ومحاولاً - في الآن نفسه - نصب ألفة بيننا:

- وهل يمكن أن أطلع على كتابيك؟

أجابتني وعيناها لا تزالان مسمرتين على القلم:

- نعم، بالتأكيد!

تناولت أحدهما بيدي اليسرى وهو ديوان الجواهري الذي بات يملأني فرحاً  اقتناؤه فهو  يعد بالنسبة لي حصيلة زمن طويل من الإبداع العراقي، ويدي اليمنى حملت كتاب العوسج الملتهب وأنوار العقل لجان غريتش وهو يتم ما يمكن اعتباره معلماً بارزاً في تأريخ فلسفة الدين، عندما استطاع الكاتب أن يجمع بشكل دائم وناجح، بين الحياد والاستقامة في العرض من جهة وبين التزاماته الفلسفية ومناقشاته المحتدمة من جهة أخرى،

استطعت استعادة قلمي والعودة إلى طاولتي، وقلت في نفسي وأنا أحاول استدراج أحد من مجايلتي الى ما أحاول كتابته عن يومي هذا:

- وكان بقربي الشاعر زهير قاسم رفع كتفه بانتباه كبير، وأما الشاعر شوقي نعيم فأحسست أنه لا يكتفي بالأقلام، ولا وقت لديه لغزارة وجمال ما يكتب، وبدأت تعتريني  الخيبة أول الأمر لأنَّ الوقت بدأ يفرط مني، وكنت منتبهاً للتشكيلي جبر علوان وهو يستحضر ألوانه كقيمة مستقلة تضيء الأشياء من الداخل بحفنة من ألوانه السحرية.

 فعدت لأكتب بعض المدونات في ورقتي الجديدة ووجدت أني أخط مقولة كنت قد قرأتها للسياسي ابراهام لينكولن تقول” أفضل صديق عندي هو الشّخص الذي يعطيني كتاباً لم أقرأه” ، اندفعت أكثر لاسترداد قلمي الى جيب معطفي الذي ابتلع رائحة السكائر التي باتت تملأ كل أركان القهوة، وبادرني بالسؤال رفيق الجلسة الكاتب زهير الجزائري : القلم من فضلك، وكان يحمل كتاباً عن الأدب الألماني حاولت مجتهداً بالحوار أن أسحب جلسائي إلى اختصاصي الترجمي والذي بت شغوفاً به،  لكن لم أفلح لأنَّ كل واحد منا كانت له ثقافة خاصة.

حاولت الانصراف بعد زمن يبدو طويلا من القراءة المختلفة والذكريات الجميلة للأصحاب. فجأة بقيت جامداً في مكاني كما التمثال. انتبهت إلى نفسي على نظراتي لما حولي والكتب التي ملأت المكان وأكثرها في يد زبائن القهوة، وكانت عينا البعض تلتهمني، فكرت قليلاً ، ربما نظراتهم الى ملامح الوزير، لم تعد بي حاجة إلى ورقة من نوع خاص. فحرصت على القلم خفت إضاعته. ثم ذهبنا كرفقة كل متجه الى سبيله.

غادرت المقهى وقررت أن أشرب عصير ليمون بدل اكمال القهوة السوداء.

دلفت إلى المقهى مسرعاً. اتجهت صوب طاولتي. لم أجد الورقة التي تركتها قبل قليل، سألت الصبي الذي كان يرحب بأحد الزبائن:

- من فضلك، الورقة التي تركتها قبل قليل هنا؟

رد وهو يضع فنجان قهوة أمام الزبون:

- آسف أستاذ لقد مسحت بها المنضدة عندما انصرفت!

خرجت من المقهى بفكر وعقل غير وكأنني إنسان آخر هبط من السماء ..ولكن لست

عرض مقالات: