اخر الاخبار

بينما كان يهيىء ملابسه للعمل كما اعتاد يومياً ، كانت هي تعد طعام الفطور مسرعةً إذ إنَّها تأخرت بالجلوس صباحاً في ذلك اليوم، كانت معتادة على الصحو في الخامسة والنصف فجراً محاولة إكمال واجباتها اليومية بشكل آلي،إذ كانت ليلتها الماضية مشحونة من جهات عدة منها المطر الغزير الذي بسقوطه بات يقوض منامها والتوتر الذي حصل لها في الليلة الماضية مع زوجها.

يتربص بها خوف دائم من المجهول اللعين الذي لا تعرف ماهو  لكنَّه بات ملازماً لحياتها، وقد يكون ذلك الشبح الذي يدعى التهاب  المفاصل ، الذي أصاب والدتها، وماتت فيه وكانت جدتها مصابة قبلها بذلك المسمى اللعين وغادرت به إلى حيث اللاعودة، ذلك المجهول الذي طالما حاولت أن تتناساه لتستأنف حياتها،ولكنه بات ملازماً لها وكانت له اليد الكبرى في إفساد السعادة التي تتمناها مع زوجها، وبعض المشاحنات التي هي نفسها لا تعرف كيف تبدأ ولماذا تنتهي، وهي لا تتعدى بعض الأمور العابرة والتافهة التي تنم عن إهماله الكامل لها، مع كل ما يمر بها من قلق، كان النشاط يملأها وتستقبل صبحها الجديد بهدوء...

مرت الأيام، وأحست بأنَّ زمام الأمور بدأ يمر من بين يديها فمرضها يتغول، والتوترات أصبحت مشاكل جمة ليس لها أدنى حل، والخوف بات ملازماً لها في الكثير من الوقت، وبات يتفاقم كلما زادت المشاكل، وفي أحد الأيام خرج زوجها ولم يعد، وعلى الرغم من أن كل ما كانت تحتاج اليه من وجوده في حياتها لا يقابل الخوف الذي تسعى أن تتخلص منه.

طالما كان ذلك المجهول قد أربك حياتها حتى مع أطفالها، فعندما كان يخطىء أحدهم كانت تنهار غضبا وتضع سبابتها بين أسنانها وربما قضمت منها في أحد المرات.

ومع أنها كانت تتقن الغفران مثل والدتها،التي لم تسامح رحيلها عن عالمها في يوم ما، كانت سعيدة وهي تمتلك كلها وحدها.

تذكرت وهي تدثر نفسها بالحزن الصامت، وهي ترثي نفسها فتكتم مأساتها بين أضلعها لتسيطر على رباطة جأشها،أخبرتها العرافة ذات يوم أنها ستموت في عمر الثلاثينيات وها هي اليوم قد بلغته، كم فكرت أنها تكذب، وكانت كثيراً ما تقول: كيف لي أن أقبل بكلام عرافة اشتريت منها( معرفتها) بثمن بخس، وكيف لها أن تؤلمني بكذبة كهذه، وكان لها أن تسعدني بشتى ألوان الكذب، أخبرتني وذهبت دون عودة وكلنا يعلم أنَّ المهاجرين لا يعودون أبداً.

كثيراً ما راودت ذهنها المكتظ بالحيرة فكرة تطرق وعيها بالألم، وتوخز تركيزها فتندفع كالمجنونة ساخطة صارخة في أعماقها، لماذا كان ذلك، كان بالإمكان أن يتحقق شيء من طموحي الوحيد وهو البقاء، لمَ الألم لم يدع مفصلاً من حياتي إلاّ وتسلّل إليه كلصوص الليل؟ لمَ أنت ظالمة أيتها الحياة، وكم أنت بشعة ومقرفة، تبدين لي بذات القبح الكبير؟.

وسرعان ما تتغير قناعتها منكرة على نفسها قول: لا لا هي بريئة ولا تعادي أحداً لكنني اعتدت التركيز على الجانب القبيح فيها وأدرت ظهري لجانبها المشرق الفتان وحتى الذين يعيشون في قعر جهنم .. يتعذبون بتركيزهم على العتمة.

صرخت أعماقها وما الفائدة أن انتسبت لركام الحياة أو لم انتسب لكنني مازلت قادرة أن أقوم من هذا الركام واستعيد حريتي التي صادرها الأشرار وعذبوني بذنب غيري فسرقت مني صحتي، تلك الحياة سيئة الصيت التي حملت لي الشر، ونقلت لي صفات وأمراض لم تك على مرامي ولم أك أرضى بها لنفسي، وليس عاقلاً من يرضى لنفسه تلك الصفات البيولوجية والأمراض الوراثية، هذا هو الشر بعينه أن ينتقل إليك مرض وراثي لم تطلبه، ولا تدري من هو المستفيد من إذلالك وبلوغك مرحلة مقتك لذاتك وامنياتك بعدم وجودك في الحياة.

وصرخت أعماقها: اللعنة كم كرهت أناي، وكم مقتك يا وجودي البائس والمحاصر من كل جهة. لذا لابدَّ أن أهجر أناي وأتخذ أناً أخرى غير هذه الأنا كي لا أصاب بالجنون كي لا أنتحر أو ينفجر دماغي بارتفاع ضغط الدم أو نسب السكر العالية. رفقة بك يا شرايين قلبي سأتجاهل نفسي، وسأجعل فاصلة بيني وبين ألمي وسأحرص على التمسك بتلك الفاصلة كي لا يتسلل الألم إلى ذاتي ويستغيث وجداني من الوخز، ولا معين فقد سأمت الصراخ بوجه سماوات الخرافة وسأمت الثقة بمن جاء للوجود غيلة كحالي، وهو متورط مثلي وحائر بوجوده وشغله بمصيبة وجودها.

 وعادت لتعزي نفسها رافعة من عزيمتها بأنه لا ينبغي تجاهل وجودها مهما كان بائساً لابدَّ أن أصنع معنىً من أتون فوضاي.. لابدَّ أن أكون شيئاً وهوية في رحم ضياعي. لابد أن أرتب أفكاري وسط هذا العبث المخيم على حواسي القاصرة العاجزة عن فهم ما يجري وكأنني دمية يتلاعب بها طفل متهور شرير لا يشعر بالمسؤولية ولا يأبه لنتائج الأحداث، طالما لا يحاسبه أحد عن عبثها واستهتاره واسترخاصه لكل ما في يديه، ولا سبيل لي، ولا مفر لكي أحافظ على ما تبقى من صحتي.

 وعندما يجتاحها أحساس أنها بلا مشاعر إنسانية وهي مجردة من الضمير البشري الذي ينكر على صاحبه خطأه تقرر أن ترحم نفسها من عذابها وتظللها أفياء العفو عن أزمتها،وبهذا ترى أنها قد اعتلت هرم حريتها المستلبة منها.

 كثيراً ما كانت تحدث نفسها: أحس أني أفقد وجودي من دون إذن مني، أشعر كأنني تمثال من الثلج صنعه أطفال في الشتاء وتركوه في مواجهة العاصفة حتى تشرق الشمس، يذوب حتى النهاية ويقال في يوم جديد كان هنا التمثال الثلجي وقد فني.

تقتنع مجددا، تقول : سأحتفظ بهذه القناعة في درج التغافل والتغاضي كي لا أموت هماً وغماً وسأسامح نفسي على عجزها عن صنع شيء يعيدها من العدم السابق لوجودها ولأنها ضحية ولاملامة على الضحايا بل الجناة.

صرخت في أعماقها قائلة :سأصنع لي حريةًجديدةً ومن رحم العبودية سأشعر بالحرية وتلك هي أولى انجازاتي.

وبدأت تتذكر ما كان في السابق، فكثيراً ما كان يؤلمها أنَّ زوجها، حيث كان يفضل الحديث إلى كل النساء، على الرغم من أنه تعود ألا يقضي أية وقت معها، ارتبكت فكل ما حدث ظلت متسمرة في مكانها صامتة، وكلما شعرت أن صبرها شارف على النفاد، أحست أنها ناعسة، لكنها بدأت تخاف حتى من النوم لئلا يكون نوماً أبدياً وقد يكون ذلك سبباً في أن عينيها باتتا تجافيها، وكما هو حالها لم تعلق لكن هاجمتها الرغبة في الصراخ والرفض للواقع الذي تعيشه. دخلت إلى غرفتها لتنام وتركت النور مضاء، كما تفعل دائماً، فالظلام يشعرها بالاغتراب، وحتى حينما كان ينتهي وقتها الحميمي البارد الموحش مع زوجها المهمل لها دائماً، وهو الذي يتجنب حتى النظر إليها وكأنه يؤدي واجباً ثقيلاً جداً، وهذا ما كان يفعله دائماً، تقوم مسرعة وكأنها تذكرت موعداً على اجتماع، فقد وجدت نفسها تتكلم بطريقة لم تعتدها، تجد قدميها مثقلتين بدم متخثر وأحست أن علامات المرض باتت تهاجمها لم تكن ترغب في الرحيل، على أقل شيء ليس الآن ففكرة وداع أطفالها لم تكن مطروقة لديها بتاتاً، فلم يكن لديهم محب غيرهم، ولا سعادة لها سواهم، وأما زوجها فلم يكن يأبه بفكرة الرجوع ليمكث معها في غرفة واحدة، وعادة لم يكن يتوقع ولا يهمه ما هي ردود أفعالها، حيث لم يكن  يتكلم سوى القليل معها، ولم يحاول ولا مرة أن يشرح رغبته في رؤيتها وهي تتضور ألماً.

وقبل أن يخرج ابتسم بطريقة باردة لا تعني أنه يرغب بشيء، كان من الكائنات أو ربما بقايا كائنات الليل الباردة التي حاولت تجاوزها.

أصبح لها وجه هزيل وشاحب وعينان كبيرتان ترتدي نصف ابتسامة إذا أتمتها فزع الناس أو ظنوها شبحاً.

وكثيراً ماخاطبت الحياة: اعلمي أيتها الحياة، أنني عندما كبرت كان البر الذي زرعته بداخلي أقوى من كل العلوم لا أرى شيئاً بعد، لكنني أفهم ما ترينه لي، عيناي مغمضتان وتغمضينهما لي أكثر حماية خوف ألا أقوى على مواجهة البقاء، تغمضينهما بيدك النحيلة برائحة عطر الدواء المر الذي أعتدت أخذه، وها أنذا أصل إلى اليوم الذي أغمض عيني وحيدة كي أغادرك، أذكر كيف كان الناس يتدافعون لأخذك، يدخلون ويخرجون عليك يمرقونني بنظراتهم الباردة فقد اعتدت تلك النظرات من الجميع سوى دفؤك.

وفي تلك اللحظة فقط أحس قلبها ماهية الفقد، وأمنت بهذا الحال الذي لمس أوتار قلوب الناس والآن جاء دورها.

تمنت أن لا ينتهي هذا اليوم ويمتد لباقي الأيام، وأن يأتي صباحها ويكون رحيماً، ليس كليالي الشقاء الطويلة التي قضتها، ذلك ان تلك الليلة قد امتدت الى نهاية حياتها.

عرض مقالات: