لم يعد الفساد في العراق مجرد أرقام في التقارير أو صفقات تمرّر في الظل، بل أصبح منظومة شاملة تدمج بين الاقتصاد والسياسة والثقافة، وتشمل حتى الذوق. إنه فساد متعدد الوجوه، أحد أخطر تجلياته ما يمكن تسميته بـ"اقتصاد الرثاثة"، اقتصاد لا ينتج، بل يستهلك كل شيء: الثروة، والمعنى، وحتى الوعي.
في بلدٍ يقوم على الريع، ويُدار بمنطق المحاصصة، لا تنتج الدولة اقتصاداً بالمعنى التنموي، بل تنتج خطاباً زائفاً يغطي النهب المنظّم بشعارات جوفاء عن الإصلاح والإنجاز.
فالدولة الريعية لا ترى في المواطن منتجاً أو شريكاً، بل متلقياً للفتات، وورقة في لعبة الولاءات. تُدار الموارد بوصفها غنائم تُقسّم، لا أدوات تنمية تُستثمر. وهكذا، تتحوّل الموازنات الانفجارية إلى بالونات إعلامية، تنفق على مشاريع متعثرة، ومقاولات وهمية، وعقود تُفصّل على مقاس المحسوبين.
ويُهدَر المال العام على بنى تحتية لا تُنجَز، أو تُنجز بشكل مشوّه، وعلى خطط تنموية لا تتجاوز أرشيف الوزارات. في المقابل، تتكدّس الثروات في أيدي قلة متخمة من الطغمة الحاكمة، فيما تعيش الغالبية تحت خط الفقر، وتعاني من انعدام أبسط مقومات الحياة.
وما يُفاقم المأساة أن هذه المنظومة، بدل أن تعترف بفشلها، تُجمّل الخراب بخطاب تزييني: مهرجانات ومؤتمرات ومشاريع "استراتيجية" تُروَّج على الورق، وتُنسى بمجرد انتهاء التغطية الإعلامية.
في المحصلة، نحن أمام اقتصاد لا يُنتج، بل يُستهلك ذاته، يستنزف موارده، ويخدع جمهوره، ويعيد إنتاج الأزمات بوصفها وقائع عادية.
لكن الأخطر من ذلك أن هذا الخراب لا يُقدّم للناس بوصفه أزمة، بل يُسوّق كواقع "طبيعي" لا بديل له. وهنا يدخل دور "ثقافة الرثاثة"، تلك البنية الرمزية التي تنتجها السلطة وتعممها عبر الإعلام، والفن، والتعليم، والخطاب الطائفي، حيث تُقدَّم الرداءة كذوق، والتفاهة كترفيه، والابتذال كحرية، والجهل كهوية.
إنه اقتصاد لا يصنع فرصاً، بل يصنع أوهاماً. تُباع فيه المسابقات التلفزيونية كأمل، والمهرجانات الفارغة كمؤشر نهضة، وتُرمى فئات واسعة من المجتمع في هوامش الاستهلاك، لتُقنع بأنها جزء من "المشهد"، رغم أنها لا تملك من هذا المشهد شيئاً.
فمن يدفع الثمن؟ تدفعه الطبقات الكادحة والمهمّشة، التي لا تستفيد من الطفرة النفطية، ولا من التوسّع العمراني المصنوع للاستهلاك السياسي. بل تُثقل كاهلها الديون، ويُفرَغ تعليم أبنائها من التفكير، ويُرغَم شبابها على الاختيار بين البطالة أو الهجرة أو الالتحاق بماكينة الفساد نفسها.
هذا الاقتصاد لا ينمو، بل ينتفخ. لا يُحرّك الإنتاج، بل يدوّر الريع. ولهذا، فإن الفساد فيه ليس خللاً طارئاً، بل من صميم بنيته. وثقافة الرثاثة ليست عرضاً جانبياً، بل آلية تطبيع، تُنتج وعياً خانعاً، وذوقاً مشوّهاً، وفضاءً عامّاً بلا معنى.
إن السؤال الحقيقي لم يعد فقط "أين ذهبت الثروات؟"، بل "كيف صيغ الوعي كي لا يسأل؟". ولذلك، فإن مواجهة هذا الخراب تبدأ من فضح العلاقة بين النهب الرمزي والنهب المادي، بين إنتاج الجهل وإعادة إنتاج التبعية.
فالتحرّر من هذا النظام لا يمر فقط عبر الإصلاح الاقتصادي أو تشريعات النزاهة، بل يبدأ من مقاومة ثقافة الخرافة، واختراق بنية الرثاثة، واستعادة الوعي بوصفه فعلاً سياسياً وموقفاً طبقياً.؟