تعاني زراعة النخيل في العراق من تراجع مستمر نتيجة الحروب والإهمال والتجريف المتعمد، الامر الذي يهدد بفقدان هذا المورد الزراعي التاريخي المهم، ما يستدعي تدخلا حكوميا.
واسط تكافح للحفاظ على نخيلها
يقول مدير زراعة واسط أركان مريوش، أن "محافظة واسط تتمتع بمساحات واسعة من بساتين النخيل، وخاصة في شمال المحافظة، بما في ذلك أقضية الصويرة والعزيزية والزبيدية. وتبلغ المساحات المزروعة بالنخيل في المحافظة حوالي 60 ألف دونم، وتضم أكثر من سبعين صنفاً من التمور".
وأضاف مريوش لـ "طريق الشعب"، أن "قطاع النخيل شهد تراجعاً كبيراً في فترة ماضية، لكن هذا القطاع بدأ في الانتعاش خلال السنوات الأخيرة بفضل الجهود الكبيرة التي بذلها أصحاب البساتين ووزارة الزراعة، بما في ذلك إدارة وقاية المزروعات".
وأكّد أن مديرية الزراعة في المحافظة تشارك في حملات مكثفة لمكافحة الآفات والأمراض التي تصيب النخيل، مثل حشرة الدبان الحميرة وسوسة النخيل.
ورغم التحسن الملحوظ، فإن القطاع لا يزال بحاجة إلى دعم إضافي من الحكومة. وأشار مريوش إلى أن "هناك ضرورة لمعالجة عدة قضايا، منها مكافحة الآفات، تحسين تسويق التمور، وتوفير القروض والمساعدات اللازمة لإنشاء بساتين جديدة"، منوها إلى أن "وزارة الموارد المائية توقفت عن تزويد المشاريع الجديدة بالحصة المائية، ما يعيق توسع القطاع".
وفي الختام، أكد مريوش أن "القطاع بدأ يشهد انتعاشاً نسبياً، لكنه يحتاج إلى مزيد من الدعم للحفاظ على استمراريته وتطويره"، مشيرا إلى أن هناك أصنافاً ممتازة من التمور، مثل الرحي، الستاوي، والبرين، والتي تزرع أيضاً في قضاء بدرة وناحية الصافية.
حمورابي أولاها اهتماما خاصا
يقول أحمد عبد علي القصير، مستشار اتحاد عام الجمعيات الفلاحية في العراق، إن "العراق يعد من أبرز البلدان التي تشتهر بزراعة النخيل، حيث يحتضن ما يقرب من 30 مليون نخلة"، مضيفاً أن زراعة النخيل في العراق ليست وليدة العصر الحديث، بل تعود إلى ما يزيد على 6000 عام.
واستشهد بـ"مسلة حمورابي" التي فرضت قوانين صارمة تضمنت غرامات مضاعفة على من يقطع نخلة، ما يدل على الأهمية الكبيرة التي أولتها الحضارات القديمة لهذه الشجرة المباركة.
وأشار القصير خلال حديث لـ"طريق الشعب"، إلى أن أقدم ما عرف عن النخيل كان في بابل القديمة، التي يعود تاريخها إلى حوالي 4000 سنة قبل الميلاد، موضحا أن "النخلة تحتل مكانة بارزة في الثقافة العربية والإسلامية، وتتميز بتراثها الغني الذي تداخل في مختلف تفاصيل الحياة اليومية للإنسان العربي".
وذكر أن "التمر أصبح جزءًا أساسيًا من طعام الإنسان العراقي، كما أن سعف النخيل يستخدم في صناعة السقوف، والجذوع كوقود، والنوى في علف الماشية وصناعة الدبس (العسل)".
وأضاف القصير، أن الواقع الحالي للنخيل في العراق "مأساوي، حيث تتناقص أعداد النخيل بشكل مستمر بسبب نقص العناية والاهتمام"، مؤكدا أن هناك 26 محطة حكومية للنخيل تغطي مساحة 3419 دونما، لكن هذه الجهود لا تزال غير كافية لتعويض الخسائر الكبيرة التي تكبدها هذا القطاع الهام.
وذكر، أن "المزارعين يعانون من ارتفاع تكاليف الإنتاج"، مشيرًا إلى أن التلقيح لكل نخلة يكلف حوالي 2000 دينار، ومكافحة الآفات تتطلب مصاريف إضافية مرتين سنويًا.
وتابع، أن تكاليف التكريب تتراوح بين 2500 إلى 3000 دينار، في حين أن جني التمور يكلف ما بين 1500 إلى 2000 دينار، موضحا أن "جمع الحاصل يكلف 3000 دينار، بالإضافة إلى تكاليف تنظيف التمور التي تصل إلى 5000 دينار، إلى جانب تكلفة الأكياس والنقل والتحميل التي تصل إلى 15,000 دينار".
وأضاف، أن متوسط المصروفات لكل نخلة يبلغ حوالي 25,000 دينار سنويًا، في حين أن إنتاجية النخلة تصل إلى 125 كغم، بقيمة سوقية تقارب 50,000 دينار. وأشار إلى أنه بعد خصم المصروفات، يتبقى 25,000 دينار سنويا فقط، وهو مبلغ غير كافٍ للمزارعين، ما أدى إلى تدهور البساتين وتراجع مستوى الاهتمام بها.
وأضاف القصير، أن معاناة النخيل في العراق "بدأت منذ السبعينيات"، وذكر أن الحرب "العراقية الإيرانية كانت أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تجريف مساحات واسعة من بساتين النخيل، خصوصًا في مناطق مثل البصرة، التي كانت معروفة بكثرة بساتينها وجودة نخيلها".
وأوضح، أن "البصرة كانت من أهم المناطق التي تصدر التمور بسبب قربها من الخليج، ولكن الحروب المتعاقبة تسببت في دمار كبير للبساتين".
وأشار أيضًا إلى أن الانتفاضة التي حدثت عام 1991 أدت إلى تدمير المزيد من البساتين، حيث جرى تجريفها لأسباب عسكرية، بهدف إضعاف المعارضة التي كانت تستخدم تلك المناطق.
وأضاف، أن تلك الإجراءات العسكرية شملت تجريف مناطق واسعة في الحلة والديوانية ومدن أخرى، مما قلل من مساحات النخيل بشكل كبير.
وذكر القصير، أن أحد العوامل الأخرى التي ساهمت في تدهور وضع النخيل هو توقف مؤسسة التمور عن دورها في شراء وتصدير التمور. وفي السابق، كانت المؤسسة تقدم السلف للمزارعين وتقوم بتسويق التمور محليًا ودوليًا، ولكن مع ضعف المؤسسة وتوقفها عن العمل، توقفت أيضاً عمليات الدعم والتصدير، ما أثر سلبًا على المزارعين ودفعهم إلى إهمال بساتينهم.
ورأى أن التوسع العشوائي للمدن العراقية كان له تأثير مدمر على بساتين النخيل، موضحا أن أغلب المدن العراقية تقع على ضفاف الأنهار، حيث توجد أفضل الأراضي الزراعية، ومع تزايد عدد السكان وزحف المدن نحو هذه المناطق، تم تجريف مساحات كبيرة من البساتين لتحويلها إلى مشاريع سكنية.
وأضاف، أن بعض الفلاحين حاولوا مقاومة هذا التوسع، ولكن مع ارتفاع أسعار الأراضي، أصبح من الصعب الحفاظ على البساتين.
وتشهد محافظة ديالى المعروفة بغناها ببساتين النخيل والحمضيات، تراجعاً حاداً في المساحات الزراعية، ما يهدد هذا المورد الوطني الهام.
وبحسب المزارع حسن فلاح من محافظة ديالى، فإن "تدهور أوضاع النخيل بدأ منذ السبعينيات وتفاقم خلال الحرب العراقية الإيرانية وما تلاها من أحداث"، مشيراً إلى أن هناك حاجة ملحة لدعم المزارعين وإعادة الاعتبار لزراعة النخيل للحفاظ على هذا الإرث الزراعي.
ويبين لـ "طريق الشعب"، ان "محافظة ديالى تضم أكثر من 140 ألف دونم من البساتين المغروسة بالنخيل وأشجار الفواكه والحمضيات، التي يصل إنتاجها لمختلف مدن العراق ويصدر أحياناً للخارج"، لافتا الى أنه "في السنوات الأخيرة، تعرضت البساتين لعمليات تجريف ممنهجة، بالإضافة إلى إهمال حكومي متعمد وحرائق غامضة".
ووفقاً لفلاح فإن مدينة بعقوبة فقدت المدينة "أكثر من نصف البساتين منذ فيضان 2019، وما تلاه من جفاف وإهمال"، مضيفا ان "التجريف المتواصل للبساتين وارتفاع نسب الجفاف وتزايد المحاصيل المستوردة أثر بشكل سلبي على المزارعين، ما دفع العديد منهم لتحويل أراضيهم الزراعية إلى قطع أراضٍ سكنية".
وخلص فلاح الى ضرورة تدخل الحكومة لمحاسبة الجهات المتورطة في التجريف، وإعادة الاهتمام بملف الزراعة في ديالى، للحفاظ على ما تبقى من بساتينها، والتي تشكل جزءاً من هوية المدينة وغطائها النباتي.