تختنق مناطق العاصمة بغداد، عشية كلّ يوم، ومنذ أكثر من شهر، على رائحة الكبريت التي أخذت تثير الخوف والهلع والاستياء بين سكان العاصمة وأطرافها، بينما تعجز الحكومة حتى الآن عن تحديد مصدر تلك السموم، في ظل تبادل جهات حكومية الاتهامات بالتقصير والمسؤولية.
وبحسب تقارير خبراء الأرصاد والبيئة، فإن مصدر هذه الروائح يعود إلى انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكبريت الناتجة عن احتراق الوقود الأحفوري في مصافي النفط ومعامل الطابوق، بالإضافة إلى حرق النفايات العشوائي.
ويحل العراق بالمرتبة 178 ضمن 180 دولة في مؤشر أداء الحفاظ على الطبيعة 2024، بعدد نقاط بلغ 43 نقطة، اما عربيا فحل بالمرتبة الأخيرة. ويستخدم مؤشر الحفاظ على الطبيعة 25 مؤشرًا رئيسيًا لتوفير نظرة مباشرة للتنوع البيولوجي وطرق الحفاظ عليه في 180 دولة. كما يدرس عوامل مختلفة مثل تغطية المناطق المحمية والأنواع المعرضة للخطر وقوانين الحفاظ والاتجاهات المستقبلية.
السوداني ينتظر النتيجة خلال 48 ساعة
ووجّه رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، أمس السبت، بتشكيل لجنة متخصصة لدراسة حالة التلوث وتكرار انبعاث رائحة الكبريت المنتشرة في بغداد والمحافظات المجاورة وبيان أسبابها ومعالجتها.
المكتب الإعلامي لرئيس مجلس الوزراء ذكر في بيان طالعته "طريق الشعب"، أن الأخير "وجّه بتشكيل لجنة متخصصة برئاسة مستشار وزارة البيئة، وعضوية كل من مستشار وزارة النفط وممثلين عن وزارة الكهرباء، والوكيل الفني لأمانة بغداد، ومدير عام دائرة حماية وتحسين البيئة في المنطقة الوسطى، لدراسة حالة التلوث وتكرار انبعاث رائحة الكبريت المنتشرة في بغداد والمحافظات المجاورة وبيان أسبابها ومعالجتها".
وقال البيان، ان رئيس الوزراء شدد على وجوب وضع حلول جذرية للمشكلة، ودراسة الأمر من جميع جوانبه، على أن تقدم اللجنة تقريرها الخاص بالموضوع خلال يومين.
الى ماذا توصلت اللجنة المشتركة؟
والى جانب لجنة السوداني، أكد المتحدث باسم وزارة البيئة لؤي المختار، تشكيل لجنة مشتركة تضم وزارات البيئة النفط والكهرباء ومحافظة وأمانة بغداد، للوقوف على أسباب رائحة الكبريت.
ولم تعلن اللجنة المشتركة نتائجها حتى الان، بينما تتمدد تلك الرائحة ليلا الى جميع مناطق بغداد.
وشكا السكان في مناطق متفرقة من العاصمة بغداد، عبر منصات مواقع التواصل الاجتماعي ووكالات الانباء من كثافة رائحة الكبريت بعد الساعة العاشرة مساء كل يوم، الامر الذي أثار استياء شعبيا كبيرا، فيما لم تحدد الجهات الحكومية المعنية، حتى الان، أسبات تلك الملوثات للعمل على مكافحتها.
وقال المختار لـ"طريق الشعب"، أن "المعلومات المتوفرة من التحقيق تشير إلى أن الرائحة ناتجة عن عمليات حرق النفايات في المطامر الصحية بمنطقة معسكر الرشيد في الرصافة، بالإضافة إلى المخلفات الصناعية الناتجة عن معامل صهر الحديد والعبوات المعدنية في مناطق شرق القناة".
رواية أخرى
ويفيد مدير إعلام هيئة الأنواء الجوية عامر الجابري بأن رائحة الكبريت تنتج عن احتراق الوقود الأحفوري، وهو أمر شائع في المناطق التي توجد فيها مصافي النفط. كما ذكر أن "المشكلة ليست مقتصرة على العراق فقط، بل توجد أيضًا في العديد من دول العالم، خاصة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا"، مشيرا إلى أن السعودية، الإمارات، الكويت، وليبيا من الدول، تشهد تركيزات عالية من هذه الانبعاثات.
ويقول الجابري لـ"طريق الشعب"، إنّ "هناك تفسيرات خاطئة انتشرت حول مصدر هذه الرائحة، حيث أشار بعض المتخصصين إلى أنها قد تكون ناتجة عن احتراق في مواقع الطمر الصحي"، مؤكدًا أن "المشكلة الحقيقية تكمن في انبعاثات ثاني أكسيد الكبريت من المصافي وعمليات احتراق الوقود الأحفوري، وهي انبعاثات تحمل مخاطر صحية كبيرة على السكان".
ويضيف، أن "استنشاق هذه الانبعاثات، خاصة كبار السن والمصابين بأمراض الجهاز التنفسي كالربو، يشكل خطرًا كبيرًا، ويؤدي التعرض المستمر لهذه الغازات إلى أمراض خطرة مثل أمراض القلب، السكتة الدماغية، وسرطان الرئة".
ويؤكد، أن "الإنسان بحاجة إلى هواء نقي خالٍ من الشوائب للحفاظ على صحته، وأن استنشاق هواء ملوث بثاني أكسيد الكبريت قد يسبب ضررًا كبيرًا على المدى الطويل"، مشيرا إلى أن "الظروف الجوية، مثل الرياح الساكنة، تسهم في زيادة تركيز هذه الانبعاثات في مناطق معينة، ما يزيد من حدة المشكلة. وفي حالة وجود رياح متغيرة الاتجاه، يمكن أن تساعد في تقليل تأثير الانبعاثات على تلك المناطق، إذ تقوم بنقلها إلى أماكن أخرى".
ويعرب الجابري عن استيائه من عدم اتخاذ الجهات المعنية، وخاصة وزارة البيئة، إجراءات جدية لمعالجة هذه المشكلة المتكررة.
ويختتم الجابري بالتأكيد على أن "المؤسسات الحكومية، وخاصة وزارة البيئة، تتحمل مسؤولية كبيرة عن حماية المواطنين من المخاطر البيئية"، مشيرًا إلى أن "العمل الجاد على معالجة مشكلة انبعاثات الكبريت يجب أن يكون من الأولويات، نظرًا لتأثيراتها الخطيرة على الصحة العامة".
السبب محدد منذ عام 2018!
وكان علي الوائلي، رئيس مراقبة جودة الهواء في وزارة البيئة، قال في لقاء متلفز تابعته "طريق الشعب"، بأن "رائحة الكبريت تمثل مشكلة قديمة تتكرر سنويًا. منذ عام 2018، حيث قمنا برصد عدد من مسببات هذه الرائحة، وخاصة في المناطق المتأثرة بمصفى ومحطة كهرباء الدورة".
وأضاف الوائلي، "من خلال الاستطلاعات التي أجرتها وزارة البيئة في السنوات الماضية، تبين أن بعض الأسباب تعود لحالات الصيانة في وحدات مصفى الدورة، مما يؤدي إلى انبعاث هذه الرائحة".
وأكد أن هذه السنة شهدت زيادة في الرائحة بالتزامن مع تغير الجو خلال هذه الاشهر، حيث تصبح الرياح ساكنة وتزداد طبقة الانعكاس الحراري في ساعات الصباح الأولى".
وأشار إلى أنه "خلال هذا العام تمت إضافة مصدر جديد لرائحة الكبريت، وهو صناعة الأسفلت، التي تتطلب استخدام مواد أسفلتية تحتاج إلى حرق الوقود الأحفوري، وعادةً ما يكون ذلك من النفط الأسود أو الخام، الذي يحتوي على محتوى كبريتي عال. وتفاقمت الحالة مع عدم توفر وسائل السيطرة على الانبعاثات وعدم تحقيق المتطلبات البيئية".
وفي ما يتعلق بالملوثات، أشار الوائلي إلى أن "أكثر من 50 في المائة من هواء بغداد ملوث حتى لو لم تكن هناك رائحة، وذلك وفقا لمؤشرات القياس، حيث تتجاوز نسبة الهيدروكربونات والغبار 30 أو 35. المستجد هو وجود الرائحة، التي تعكس تدهور الوضع البيئي في المدينة".
تحديد المصدر الرئيس
ويقول المتنبئ الجوي صادق عطية، أن "رائحة الكبريت المنتشرة حاليًا في العاصمة بغداد وبعض مدن الفرات الأوسط، بالإضافة إلى البصرة بنسبة أقل، تعود إلى انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكبريت. ويُعزى السبب الرئيس لهذه الانبعاثات إلى حرق الوقود الأحفوري، حيث إن الرياح الساكنة أو الجنوبية الشرقية تعمل على حمل هذه الانبعاثات إلى المناطق السكنية في بغداد والفرات الأوسط".
ويضيف العطية في حديث لـ "طريق الشعب"، أن "معامل الطابوق، التي تعتمد على النفط الأسود في عملياتها، تسهم بشكل كبير في زيادة تركيز هذا الغاز في الهواء. كما أن حرق النفايات العشوائي في تلك المناطق يؤدي إلى تفاقم المشكلة"، مبينا أن "هذه الانبعاثات تتفاعل مع الهواء وتؤدي إلى تكوّن غاز ثاني أكسيد الكبريت. وعلى الرغم من أن التعرض المعتدل لهذا الغاز قد لا يشكل خطرًا كبيرًا على صحة الإنسان، إلا أن استنشاقه بكميات أكبر قد يتسبب في تحسس القصبات الهوائية والتهابات الرئة. وفي حالات أكثر خطورة، يمكن أن يؤدي إلى الإصابة بأمراض مثل الربو وسرطان الرئة، أو حتى الأزمات الدماغية عند ارتفاع التركيزات".
ويوضح، أن "منطقة الشرق الأوسط تُعتبر من أكثر المناطق حول العالم التي تشهد انبعاثات عالية لغاز ثاني أكسيد الكبريت، حيث تأتي السعودية في المرتبة الأولى، تليها الكويت، الإمارات، العراق، وإيران"، لافتا إلى أن العراق يشهد انخفاضا في كميات الانبعاثات خلال عامي 2018 و2019، إلا أن السنوات الأخيرة شهدت زيادة ملحوظة، نتيجة لزيادة الاستخراجات النفطية وارتفاع أعداد السيارات.
نسبة الملوثات تتصاعد
الخبير البيئي تحسين الموسوي، يؤكد وجود تحديات بيئية خطيرة تواجه العاصمة بغداد، مشيرا الى ان "هذه التحديات تتركز حول ارتفاع مستويات التلوث، خصوصًا غاز الكبريت، بالإضافة إلى مشكلات أخرى تتعلق بالتوسع السكاني، استنزاف الموارد الطبيعية، وانبعاثات الغازات السامة".
ويقول الموسوي لـ"طريق الشعب"، إن "بغداد شهدت في الآونة الأخيرة زيادة ملحوظة في مستويات غاز الكبريت، والذي يرتبط بالتلوث الناجم عن معالجات الصرف الصحي التقليدية وغياب تقنيات حديثة لمعالجة النفايات. فمن بين المصادر الرئيسة لهذه الغازات، أشار إلى محطة معسكر الرشيد ومعالجات أخرى غير متطورة داخل العاصمة".
ويضيف الموسوي، ان "الانفجار السكاني في بغداد أدى إلى زيادة الضغط على البنية التحتية، بما في ذلك الطلب على الطاقة، بسبب النقص في إنتاج الكهرباء، وبالتالي فان المولدات الأهلية تنبعث منها كميات كبيرة من الغازات السامة، ما يزيد من مستويات التلوث".
وتحدث الموسوي عن "فقدان الغطاء النباتي نتيجة لعمليات التجريف واستغلال المساحات الخضراء في بغداد. الأشجار والمساحات الخضراء كانت تلعب دورًا كبيرًا في امتصاص الغازات الضارة مثل ثاني أكسيد الكربون والكبريت"، منبها الى ان أن "عدد السيارات في بغداد تجاوز أربعة ملايين سيارة، ما يزيد من انبعاثات الغازات الضارة من العوادم. هذا الارتفاع في عدد المركبات، وعدم تطبيق معايير صارمة للحد من الانبعاثات، أدى إلى زيادة تلوث الهواء في المدينة بشكل كبير".
ويتطرق الموسوي إلى انعكاسات هذا التدهور البيئي على الصحة العامة، مشيرًا إلى ارتفاع معدلات الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي مثل الربو والسرطان الرئوي. هذه الزيادة في الأمراض ترتبط بشكل وثيق بارتفاع مستويات التلوث في الهواء، وهو ما تعكسه تقارير وزارة الصحة التي ترصد ارتفاعًا في عدد الإصابات بهذه الأمراض. ويختتم الموسوي حديثه بالتحذير من أن "العراق يمر بمرحلة تجاوز فيها الحدود البيئية الطبيعية. إذا استمرت هذه التوجهات، فإن البلاد قد تواجه تدهورًا بيئيًا خطيرًا يصعب معالجته في المستقبل القريب"، محذرا من أن "التدهور البيئي سيتفاقم إذا لم تتخذ إجراءات جذرية وسريعة".