التاريخ والسرد بنيتان لا تبتعد الأطراف في هذه المعادلة عن بعضها إلا في الصياغة .فالتاريخ مجموعة وقائع ومواقف ،والسرد من يعمل على الحفاظ عليها من باب كونها ملكية عامّة تتطلب الحفاظ على صورتها ووتيرتها التي تقدمها للأجيال القادمة .هكذا عمل المؤرخون على توثيقها بحيادية وسعة رؤية .أما السرد فأنه يذهب إلى توجه آخر،وهو مجال الفن والبعد الدرامي القائم على التوازن والتقارب بين الأحداث الصغرى والكبرى لتقديم نصوص قرأناها في الأدب العالمي .والقاص(سلام القريني) اجتهد في مجال تقريب تفاصيل التاريخ وجزئياته من النص السردي باجتهاد أيضاً .وفي هذه المحاولة الجادّة عمد إلى إحداث التوائم بين طرفي هذه المعادلة،حيث يجد المتلقي أن ما يُطالعه في النص هو واقع قريب منه ،بل عاش بعض أجزائه وتفاصيله على هذا النحو أو غيره ،أو سمعه من ضمن المرويات العامّة .فمحتوى النصوص مزج بين تسجيل السيرة الشخصية بتفاصيلها ،والبناء القصصي الذي اقترب في بعض تفاصيله من التسجيل .
ولكن هذا لا يعني أن النصوص ابتعدت عن بنية السرد الفني الذي تأكدت ناصيته كثيراً في معظم النصوص .
فلم تأخذ القاص إلى ضفتها وبنيتها كتاريخ فردي وجمعي ،وإنما هو تاريخ عام يخص الإنسان العراقي حصراً وهو يعيش أصعب الظروف السياسية والاجتماعية التي لا تنأى عن تاريخ أي متلقي سمع أو عاش تفاصيلها .وهي سمة واكبت السرود عامّة ،لكن القاص هنا يجتهد في صقل رؤيته وأساليبه في السرد والتسجيل ليؤسس لنصه هوية تأخذ من كتابات(أبو سعيد/عبد الجبار وهبي وأبو كَاطع )على سبيل المثال .غير أن القريني يعمل على تأسيس منحاه (هويته) السردية من خلال تكييف محتوى النص لما يعتقد به مناسباً .وفعلاً كان هذا حادثاً .
لقد تجسدت خصائص متنوعة حافظ عليها كل نص بوحدته ومعانيه وطرق السرد والأساليب .
ففي قصص مثل الجهات الأربع /الكرش وفائض القيمة ) حتى قصة( انتهاك ) كان في هذا يراوح بين التسجيل والبناء الفني .فهو وفي كل نص نجده يعمد إلى عرض التفاصيل والجزئيات للتوفر على رصانة نصه بشكل عام دون الاستغناء عن التسجيل الذي يراه نوع من إضفاء الحيوية(المصداقية) واحترام التاريخ العام .
فالقاص كونه ملتزم سياسياً لا يتخلى عن تجربة الواقع وما آلت إليه الحياة ضمن ظروف سياسية متحكمة دون الشرعية .فالسارد لا يمكنه اخفاء انتمائه إلى الواقع الذي نال منه سواء ذاتياً أو نال من المقربين له . لكن القاص حاول أيضاً أن يوازن في هذا ،باستثناء قصتين (انتهاك /تعسف) .ولنؤكد أن الثانية كانت أكثر النصوص دلالة على حرفية سردية .فقد وازن بين حدث التاريخ الذي يعرفه وعاشه مقابل ما عاشه أيضاً المتلقي .فهو يتناول أحداث واعية تنتمي إلى التاريخ من جهة وإلى الفن من جهة أُخرى .
كما وأن النص هذا انموذج لرواية ذات مشروع خاص في النظر إلى التاريخ الخاص والعام ،فهو مليء بالأحداث والمفارقات وصور جسّدت جور الأزمنة ،وكل من الظروف السياسية السلبية التي مرت على العراق وعاش الكاتب تفاصيلها .
القاص(القريني) يطرح مشروعه عبر الحفر في التاريخ الذي وطأ كثيراً مشروع كتابة تفاصيل التاريخ .غير أن مثل هذا التناول يتطلب الروية والتدقيق من أجل الحفاظ على الموازنة بين الفن والحدث .
الكاتب للسرد يعمل على تقشير الظواهر ،واللجوء أحياناً للرموز وصور التخفي التي لا تحجب الحقائق بقدر ما تضعها ضمن دائرة المداولة .
فلو دققنا في روايات غائب طعمة فرمان لتوقفنا مباشرة على التاريخ من باب النص ،كما هو في (النخلة والجيران /ظلال على النافذة).إننا أمام مشروع كبير ينتظر الكاتب.وأرى أنه ومن خلال ما قدمه في مجموعته(الجهات الأربع) ينبئ بمشروع جديد في كتابة النص القصصي ،لأن الكاتب وباستثناء كونه حامل معلومات تاريخية يمكن أن تُساعده على انجاز جديد يكمّل نصوص هذه المجموعة مستقبلاً.