لا يخلو أي توصيف للشعرية من المفارقة، ولا من اثارة السؤال الانطولوجي الذي يخص مفهومها، واجراءاتها في التعاطي مع إشكالات تحولاتها، على مستوى التاريخ، أو على مستوى علاقتها بالحداثة، أو التجاوز، وهي قضايا باتت أكثر اثارة، وعصفا وانهماما بوضع "الشعرية" إزاء ما هو قار في مركزيات الشعر العربي ذاته، بوصفها رافعة ل"التابو" الذي أحاط نفسه بمرجعيات واسرار واحكام، جمعت بين حكاية "ديوان العرب" الجامع، وبين حساسية خرق سلطته، عبر خرق النظام، والطلل والرمز والاستعارة.
قد تعني مفارقة مفهوم الشعرية وعيا بالكتابة، وبخرق مألوف الشعر، لكنها ستعني أيضا وعيا صادما بالمغامرة التي تخص تجاوز علاقة هذا المفهوم بجوهر الموضوع الشعري، لا سيما ما يتعلق بعلاقته بالزمن، والفلسفة والدين، لأن تاريخ الشعر العربي تاريخ جامع للتماثلات والاختلافات، وهو ما جعل قضية الشعر من أبرز القضايا التي ارتبطت ب" المسكوت عنه" في اللغة والتاريخ، فحين نتحدث عن "أبي نواس" فأننا نتحدث عن المغامرة والمفارقة، وعن تحول الوعي، بوصفه تحولا في النظر الى المكان والغرض، وأن الخرق الاستعاري والتصويري الذي احدثه الشاعر، شكّل منعطفا مبكّرا، مهّد لسلسلة من الخروقات الشعرية الكبرى، التي توجّها الشاعر "أبو تمّام" في دينامية التجاوز، وفي كسر ايهامات العمود الشعري، وعلى نحوٍ جعل من قصيدته علامة فارقة في أرخنة التجديد الشعري العربي، وجعل مفهوم الشعرية ذاته إزاء مراجعات نقدية وسيمائية، وحتى انثربولوجية، وجدت في اللغة مناورة للتجريب، مثلما وجدت في القصيدة بنية قابلة للتغاير والازاحة، ولتمثيل ما تحمله من مفارقات مفتوحة، الهمت الشعراء في عصور لاحقة حافزا للنظر في التجديد، بوصفه تجاوزا، وخرقا للتاريخ ذاته.
ما حدث في العصر الحديث لم يكن تمثيلا مجردا لما حملته الجدّة الغربية في الشعر، ولما كتبه شعراء مغامرون مثل بودلير ورامبو ومالارميه، بل حمل معه شفرة "الماضي" المتوهج، والمحرك لما تسميته ب"اللاوعي الشعري" الذي إعاد انتاج "ابي نواس" و"ابي تمام" بوصفهم شعراء ادركوا سر علاقة الشعر بالتجاوز، وبتقويض مركزية تاريخ "القصيدة" في التاريخ وفي المكان وفي "الديوان"
تجارب التجديد في النصف الأول والثاني من القرن العشرين، بدت وكأنها تاريخ مواز، وثورة جعلت من مفهوم الشعرية إزاء تحديات كبيرة، ومفارقات أكبر، تأثرت بتجارب عالمية، وبأصوات شعرية جمعت بين المفارقة والمغامرة، لكنها ظلت تحمل معها هاجس التاريخ، وحساسية العلاقة مع القصيدة العربية، لا سيما تجارب قصائد جماعة ابولو، وجماعة الديوان، وجماعة الشعر المنثور، وصولا الى تجارب الرواد في العراق- بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي، نازك الملائكة، بلند الحيدري" وكذلك تجربة جماعة مجلات "شعر" و"الأديب" والآداب" في بيروت، إذ كشفت هذه المعطيات عن مفارقات كبيرة، وضعت الشعر العربي امام صدمات بنيوية كبيرة، واسئلة مسّت "المخفي" من سرائر ذلك الديوان الذي لم يعد قائما، ومن أحلام الشعراء الرومانس، والشعراء العصابيين، وهو ما اعطى لهوية "القصيدة" قناعا آخر، ادرك سحريته شعراء المغامرة، فذهبوا الى التجاوز بوصفه وعيا، والوعي بوصفه خرقا، وكشفا، وتعرّفا على أسئلة اليومي والعابر كما سمّاه بودلير.
قد تكون تجربة السياب مفارقة تاريخية لافتة، لكن تجربة ادونيس تعد مفارقة اكثر تجديدا على المستوى الفني، انفتحت فيها القصيدة على التجاوز، بوصفه تجاوزا على التاريخ، وعلى الزمن الشعري، مثلما كانت تجربة "انسي الحاج" تجاوزا للمألوف، على مستوى الاقتراب الصاخب من المحظور، أو على مستوى إعادة تعريف مفهوم الشعرية، بوصفه مفهوما زمنيا، لا قياس له، ولا معيار لإشتغالاته وجدّته.
ما بدا أكثر تصعيدا للتجريب الشعري، لم يكن بعيدا عن وعي المغامرة، وعن وعي التجاوز، وعن طبيعة المتغيرات التي استغرقت الشعرية، وعلاقتها بالتحولات الكبرى، سياسيا وثقافيا وتعليميا في واقعنا العربي، حيث تحولت صدمة مفهوم التحرر، وصعود الفاعليات السياسية الى مفارقة، انعكست على تشكلات المفارقات الأخرى في الثقافة والاجتماع والسياسة والايديولوجيا، حتى بدا الأمر وكأن هناك تحولا كبيرا، جعل من الشعر ومن ديوانه المثيولوجي اكثر عرضة للمراجعة، والمساءلة، وحتى التقويض، وعلى نحو بدت "حداثة الشعر" ظاهرة لا تكتفي بالثقافي فقط، بل كان انفتاحها على السياسي والاجتماعي والنفسي تمثيلا لعالم جديد، ولقصيدة تعي أن وجودها الصاخب اعطى للمفارقة حضورا فائقا، وتجاوزا صنع له تاريخا، يمكن أن تؤسسه القصيدة ذاتها..