نقوش الكتابة السريانية في الالواح الرخامية، بدت غريبة لصبي صغير يراها لأول مرة في حياته، بأبجديتها التي تنتهي  بمنحنيات جميلة، حينها كنت في التاسعة شغوفا بالرسم، بل كنت متفوقا في تجسيد الاشكال وتلوينها بالباستيل، كنت التلميذ المقرب من معلمي الاول، عز الدين الحيدري، معلم اللغة العربية والتربية الفنية في ابتدائية المقداد، شغلني ذلك التناسق الجميل الذي بدت عليه تلك الكلمات المحفورة في الرخام الابيض اللامع، في مقبرة الارمن الارثوذكس، جلست على المستطيل الرخامي اللامع، اتطلع الى شاهدة القبر التي نقشت عليها كلمات غائرة، بدت عصية على صبي في الثالث الابتدائي، لا يعرف سوى قراءة اللغة العربية، تحت ظلال شجرة السدر الضخمة وانا اجوس بنظراتي في تمثال المرأة، التي احتضنت طفلا صغيرا عاريا بين يديها، هنالك ما يشبه اكليل الورد فوق راسها، انسدلت ارديتها الطويلة، الملونة بالأزرق والاخضر الفيروزي، والاحمر الارجواني المشوب بمسحة بنفسجية،   بطياتها اللينة الناعمة، التي غطت كتفيها حتى اخمص قدميها، بدت لي تلك المرأة  الجالسة، مألوفة وكأنني كنت اعرفها مذ امد بعيد، لازلت اتذكر تلك المشاعر الغريبة، التي انتابت الطفل الذي كنت عليه قبل ستة عقود مضت، تطلعت اليها بصمت وهي تنظر بحنو الى صغيرها، الذي بدا كملاك ناعم ورقيق، وهو يطبق بأصابع يده الصغيرة، على سبابتها التي انشغلت تداعبت شفتيه، لازلت اتذكر اني لم استطع ان اعرف اي من الالوان ينتمي لون وجهها المستطيل، اكان مزيجا من الابيض المشوب بالوردي ام الابيض المتوهج بحمرة خفيفة؟ كالحمرة التي تسبق الغروب، هنا وهناك ثمة كتابات وتواريخ لأيام واعوام وذكريات، مررت اصابعي في اخاديد الاحرف الغائرة، اتحسس الملمس الناعم للرخام البارد،  بينما شمس خريفية هائلة تداعب بضيائها البارد الذي تسلل عبر سعف النخيل، التي طبعت ظلالها المرتعشة على الممر الترابي المبقع  بحشيش اخضر باهت، يجثو تحت اقدام الموكب الصامت، الذين حملوا على اكتافهم تابوتا ضخما بلون بني لامع، بأربع مقابض فضية على جانبيه، لمعت ببريق خاطف، يتقدمهم رجل برداء اسود طويل ولحية كثة سوداء، كان يمسك بيده اللاحمة ما يشبه المبخرة او مرشة ماء الزهر، بعد ان مرت سنوات اكثر مما يجب كيما اتذكر تفاصيل ذلك المشهد القديم، طالما يعترض طريقي ضباب عتيق التهم اطراف الصورة القديمة، وانا اعيد ترميمها ببقايا صور تتبدد، كما لو كانت ثورا عجوزا جثا على قوائمه الاربعة  بانتظار النهاية، كنت ذاك الصبي الصغير في عامه التاسع، وهو يتحسس تمثال الام الناعم ، بوجهها الشاحب وهي تنظر الى صغيرها، كان كما لو يلهو بين يديها، حيث تشظت انكسارات ضوء شمس تلك الظهيرة، الذي تسلل عبر اوراق شجرة السدر وارفة الظلال، اتذكر بأن فكرة اخذ التمثال خطرت على بالي في تلك اللحظات، رغم اني كنت اعرف، باني لا املك حق انتزاعه من مكانه، للحظة فكرت ان اخبئه تحت قميصي، ان اهرب به عبر بوابة المقبرة، الا ان الخوف تسلل الى عقلي الصغير، يحذرني مما سأقوم به ويخبرني، بان تمثال المرأة التي تحمل صغيرها الجميل، هو ملك للميت الذي يرقد تحت  مستطيل الرخام الابيض، وانه قد يستيقظ في اي لحظة، ويخرج من قبره وسيلاحقني ليسترد تمثاله الثمين، وسيعاقبني لأني سرقت ممتلكاته، فأبعدت تلك الفكرة عن بالي، ولكني لم ارفع اصابعي حين تلمست طيات الرداء الناعم ، في حقيقة الامر كنت ادرك  جمال المرأة، بدت لي متسامحة، كانت تشبه امي الى حد كبير، في تلك اللحظة التي لمست فيها بطن الطفل الوديع، شعرت به يكركر ويضحك، بينما امه تنظر الي بود، لأني داعبت طفلها الصغير، الذي بدا لي ملاكا صغيرا ، يشبه تمثال الملاك المجنح الذي ظلل الضريح المجاور بأجنحته الحجرية، رغم طفولتي الا اني كنت اعرف، باني لم اكن بالجمال الذي ظهر عليه ذلك الصغير الرخامي، وهو بين يدي امه، استردني صوت الموكب الجنائزي والرجال ببدلاتهم السود، وهم يقطعون خطواتهم الاخيرة صوب نهاية الممر، هناك توقف الموكب، بجانب ضريح رخامي، يحرسه تمثال نصفي  لصبي صغير بمثل عمري او لربما يكبرني بعام،  رأيت هناك حفرة عميقة، بدت كما لو ان احدهم انجز مهمة حفرها مذ ساعة مضت، فرائحة التراب الرطب عبقت بالمكان، بعد ان ازاحه الرجال عن اكتافهم، وضع التابوت الخشبي اللامع على الممر الترابي، انشغل احدهم بربط حبل سميك بالمقابض الجانبية الاربعة، بينما احاط الرجال الاخرون التابوت المسجى على الارض المعشوشبة، عبر الصمت العميق، تردد صوت الرجل الملتحي بثوبه الاسود الطويل، وهو يقرا في كتاب امسك به بكلتا يديه، كنت اعرف ما معني الموت ، كنت طفلا في الخامسة حين رأيت صديقي صامتا وساكنا مسجى بلا حراك على قطعة ثلج مستطيلة، في ذلك النهار القائظ، ، اسند خده الى الثلج وتمددت ذراعيه الى جانبيه.

صديقك مات ؟

اخبرني بذلك قريبه الذي يكبرني بأعوام عديدة وهو يبكي، عرفت باني لن اتمكن من رؤيته مرة اخرى، طالما هو راقد بلا حراك، وخده يغوص في قطعة الثلج في تلك الظهيرة .

المسكين لدغته افعى!!

احدهم  اخبر الرجل الذي تساءل عن سبب موت الصغير، وانا انظر الى صديقي الذي رقد بلا حراك، وهو الامر الذي لا زلت حتى يومي الحاضر، يشعرني بكراهية عميقة وخوف تجذر في ذاكرة طفولتي البعيدة  من تلك الافاعي الملساء بألسنتها المشطورة، حتى وان تلقيت في طفولتي المبكرة جرعتي الاولى والاخيرة، حين امسك بي شيخ الطريقة القادرية وبصق في فمي في لحظة وجد فقد فيه المتصوف المجذوب وعيه، قال حفيد الكيلاني،  المتعهد بخدمة الحضرة القادرية  يطمئن أمي المذعورة

 ان ابنك مبارك، لأنه تلقى الطريقة القادرية من شيخها الكبير!

يبدو ان الرجل كان مصيبا في تطمينه لوالدتي الخائفة، فهو الامر الذي  نشأت عليه في ما بعد، فأنا لا اؤذي الافاعي التي تنسل من حولي، كنت اتسلى بمسكها في الباحة الترابية امام  بيت العائلة، الذي شيد في حينها وسط مزارع الحنطة، التي امتدت حتى الافق البعيد، كما كنت ارشد العقارب التي تجوب الممر الذي يحيط بيتنا الى وجهتها  برسم ممر على التراب  بأصبعي ، الا اني كرهت الافاعي لأنها انتزعت صديقي، لم اقتل اي افعى في حياتي، باستثناء افعى واحدة وجدت نفسها، لسوء حظها، تحت حذائي العسكري في سهل هيزاوة السفلي، عندما خيم فوجنا هناك للتدريب نهاية عام 1979.

نظرت الى الرجال وهم يدلون بالتابوت الى الحفرة العميقة ، بينما الرجل الملتحي الذي يرتدي قفطانا اسود، اخذ ينثر حفنة التراب على التابوت، الذي استقر في قعر الحفرة العميقة، كما لو كانت اشارة البدء بمراسيم الدفن، حيث انهالت المجارف تلقي التراب حتى غطى التابوت، وسويت الحفرة بالأرض،  لم يمر وقت طويل،  حين غادر الرجال المكان  بهدوء رغم الثرثرة التي تصاعدت هنا وهناك وهم يقطعون الممر في طريقهم لمغادرة المقبرة، ، التقطت ثمار شجرة السدر الناضجة بمذاقها الحلو المعطر، التي تناثرت بين الاضرحة والتماثيل والصلبان، ووضعتها في جيب بنطالي حتى انتفخ، بينما انشغل جدي الصامت،  يلمع الرخام الابيض بيده اللاحمة، وهو ينظر الي وابتسامة رقيقة على شفتيه البنيتين، بلحيته المشذبة وشاربه المقصوص ، لما عليّ ان اهتم  بمعرفة عمر جدي؟ بل لم اشغل نفسي بالتفكير في الامر! ها انا ادرك، بعد اعوام طويلة، بانه كان  في نهاية عقده السادس، اقل بسنوات معدودة على ما انا عليه الان، وهو ينظر الى حفيده الصغير ابن التاسعة، الذي انشغل بدوامة الأسئلة كما الاجوبة التي تلقاها واثارت تفكيره، طالما لم يعرف ما تعنيه كلماتها العصية!

-ما هذه الكتابة جدو !؟

-انها السريانية.

-السريانية ؟!

-من ذلك الرجل الذي يقرا  في الكتاب جدو ؟

-انه القس

-القس ؟ ما الذي يفعله القس ؟

-يقرا الصلوات على روح الميت

-الصلوات على روح الميت ؟

-نعم .

بيده التي تبتل بالماء، حين يغمر ورق السنفرة الاحمر في الدلو الصغير، يجلو الرخام  الباهت فيطلق بريقه الكامن، انا الاخر مددت يدي  في الدلو الصغير، بطلائه المعدني الابيض، فأخرجت ورقة خشنة الملمس . قال لي وهو يبتسم :

-اقلبها على الوجه الخشن. 

بخشوع مد سجادته الملونة المزخرفة بالمآذن، كما وضع جبينه العالي ساجدا في صلاة عميقة، تحت ظلال النخيل واشجار السدر والصلبان وهديل حمام الفاختة.

بينما انشغلت اضغط بكلتا يدي على الورقة الخشنة، حتى صقلت النتوءات الصغيرة التي علقت بمستطيل الرخام الابيض، شعرت بالفرح، وانا ارى الرخام وهو يطلق بريقه البارد، بينما شمس ناعمة، تغادر كبد السماء وتختفي وراء شجرة السدر الضخمة، لازالت تلك الشجرة قائمة حتى اليوم ، انظر اليها كلما مررت بطريقي بالمقبرة حيث البوابة الخشبية المغلقة والصلبان والقبب المتهالكة المشيدة بالآجر .

 بعد ان خبأ ورقة في جيب قميصي ،واخرى في جيب بنطلوني، وهو يمرر راحة يده على راسي، قال جدي:

خذ، هذا لك وهذه لامك، اذهب الى البيت و لا تتسكع هنا وهناك .

لازلت اتذكره، وهو يحني ظهره ليحك جوانب الضريح الرخامية،  بينما الرجل الملتحي بثوبه الاسود الطويل ينظر الى جدي، واضعا يده بلطف على رأسي ، متمتما بصوت خفيض

حاج سعيد ابن من هذا الصغير؟

رد جدي ، مبتسما دون ان يرفع راسه الى القس .

انه ابن ابنتي ابونا.

عرض مقالات: