تعد أزمة المياه في العراق، تهديدا وجوديا لحياة الملايين، وتضع البلاد أمام اختبار صعب؛ ففي ظل شحّ الإطلاقات المائية من دول الجوار، وتزايد نسب التلوث والملوحة في الأنهار، خرج ناشطون من سبع محافظات جنوبية ووسطى ليعلنوا من مدينة المدحتية في بابل، أنهم بصدد تصعيد احتجاجاتهم عبر التظاهرات الشعبية، ملوّحين بخطوات أشدّ في حال استمرار التراجع الحاد في الحصص المائية، لاسيما في ملف خور عبدالله.
وهدد الناشطون بالتصعيد عبر التظاهرات، في إطار مناقشتهم ملفي شح المياه وخور عبدالله.
وقال الناشط من بابل، ضرغام ماجد، أن الاجتماع جاء بعد سلسلة من التظاهرات الشعبية، احتجاجًا على قلة الإطلاقات المائية من الجانب التركي وتلوث الأنهار بمياه الصرف الصحي، مشيرًا إلى أن النقاش تناول إجراءات بديلة، بينها الضغط الشعبي والرسمي لحماية صحة المواطنين.
استثمار المصالح المشتركة
فيما أكد الناشط عبد الأمير الشمري من المثنى أن المسؤولية تقع بالدرجة الأولى على الحكومة العراقية، داعيًا إلى استغلال الأوراق الاقتصادية والتجارية مع تركيا للضغط نحو إطلاق الحصص المائية، إضافة إلى تحريك الملف أمام المنظمات الدولية. فيما قال صالح الموسوي من واسط: أن الحضور يمثل أحرار المحافظات، وأن هناك خطوات تصعيدية قد تُتخذ قريبًا، سواء عبر التظاهرات أو استفتاء شعبي، خاصة فيما يتعلق بخور عبدالله، مع التحذير من مقاطعة البضائع التركية التي تقدر قيمة تبادلها التجاري مع العراق بـ17 مليار دولار سنويًا.
وأكد المتحدث باسم وزارة الموارد المائية، خالد شمال، أن العراق لا يتسلم سوى أقل من 40% من حصته المائية، في حين تتطلب الحاجة الفعلية استلام 70–80% لتلبية احتياجات الزراعة ومياه الشرب.
وأشار إلى أن السنوات الأربع الماضية شهدت جفافًا حادًا وشحًا في الإيرادات المائية، ما اضطر الوزارة لتقليص الخطة الزراعية الصيفية والاكتفاء بخطط هيكلية لتقليل الضرر، في وقت تراجع فيه الخزين المائي إلى 8% فقط، وهو ما وصفه بشدة الوضع الصعب والمعقد.
وأضاف شمال، أن الوزارة تعمل على خطتين أساسيتين: الحفاظ على الخزين المائي المتبقي وإطالة عمره لأقصى مدى ممكن، وتنفيذ حملة لإزالة التجاوزات على المياه، بمشاركة القوات الأمنية ووزارة الداخلية ودعم مباشر من رئيس الوزراء ووزير المالية، مع تشديد الإجراءات القانونية بحق المخالفين، بهدف تحسين كفاءة منظومة الري والواقع المائي في البلاد.
استراتيجية مواجهة التحدي الخطير
من جهته، اعتبر النائب السابق فوزي أكرم ترزي أن أزمة المياه ليست مؤقتة، داعيًا إلى اعتماد استراتيجية النقاط الثلاث لمواجهة التحدي الخطير، والتي تشمل: تشكيل مجلس أعلى لإدارة المياه بكامل الصلاحيات، الانفتاح على المراكز الدولية المتخصصة لتقنيات المياه، وربط ملف المياه بالورقة الاقتصادية للعراق لتحريك ملف الإطلاقات المائية مع تركيا.
وقال أن أزمة المياه تتفاقم مع مرور الوقت، ولا سيما في محافظات الجنوب والفرات الأوسط التي بدأت تعاني بشدة من آثار الجفاف.
ارتفاع التراكيز الملحية
من جهته، حذر عضو لجنة الزراعة والمياه النيابية، ثائر مخيف الجبوري، من تفاقم ظاهرة اللسان الملحي في البصرة بسبب شح المياه، مشيرًا إلى أن الأزمة تشكل خطرًا بيئيًا وصحيًا يهدد المحافظات الجنوبية.
وأكد أن شح المياه انعكس على الزراعة ومياه الشرب، حيث ظهرت شكاوى من وجود مياه آسنة في مناطق الفرات الأوسط، وارتفاع تراكيز الملوحة التي تؤثر على المشاريع الزراعية كبساتين النخيل والمزروعات الأخرى، مؤكدًا أن زيادة الإطلاقات المائية العذبة هي الحل لتقليل نسب الملوحة، فيما إنشاء سدود وحواجز لعزل المياه المالحة يُعد خطوة طويلة الأمد ومكلفة للغاية.
وأشار المختص في شؤون المياه، تحسين الموسوي، إلى أن الأزمة تعود جذورها إلى قرارات خاطئة منذ سنوات، حيث أدت إلى توقف الأنشطة الزراعية وجفاف البحيرات والمستنقعات والاعتماد المتزايد على المياه الجوفية غير المرئية. وأضاف، أن إدارة ملف المياه لا تقتصر على وزارة الموارد المائية، بل تتداخل فيه جهات عدة، فيما تستهلك الزراعة الجزء الأكبر عبر أساليب الري التقليدية القديمة، بينما تتأثر جودة المياه بالتجاوزات البيئية التي تتحمل مسؤوليتها وزارات أخرى مثل البيئة والصحة.
العراق الخامس عالمياً
وأكد الموسوي، أن التأجيل المستمر لمعالجة الأزمة من قبل الحكومات المتعاقبة أدى إلى تفاقم المشكلة، وأن الاعتماد على حلول موسمية أو الأمطار لم يعد مجديًا، في ظل أن العراق أصبح خامس دولة في العالم من حيث شدة التطرف المناخي ويعاني حصارًا مائيًا من دول الجوار. وانتقد عدم وجود سياسات ناجعة للترشيد أو التقنين، وعدم اعتماد تقنيات حديثة في الري أو برامج للتوعية والإرشاد، مشددًا على أن المشرع العراقي يتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية لعدم إقراره قانون المجلس الأعلى للمياه، الذي يفترض أن يكون هيئة مستقلة قادرة على وضع حلول استراتيجية طويلة الأمد.
وخلص الموسوي الى أن ملف المياه يجب أن يُدار بسياسة سيادية مركزية، بعيدًا عن تضارب الصلاحيات بين الوزارات والمحافظات، وبعقلية وطنية تراعي مصلحة العراق العليا، لتجنب المزيد من الأخطار البيئية والاقتصادية والاجتماعية.
تحليل الأزمة والحاجة إلى الترشيد
وتظهر المؤشرات أن العراق يواجه أزمة مائية مستمرة ومعقدة، تتسبب في شح الموارد وتأثير مباشر على الزراعة ومياه الشرب، مع ارتفاع معدلات الملوحة في المناطق الجنوبية، خصوصًا البصرة. ويُعد ضعف الإطلاقات المائية من الدول المجاورة، وعدم وجود سياسات ترشيد فعالة، إضافة إلى التجاوزات البيئية، عوامل رئيسية في تفاقم الأزمة.
ويؤكد الخبراء، أن ترشيد استهلاك المياه، واعتماد التقنيات الحديثة للري وحصاد مياه الأمطار، وتطوير البنية التحتية للمياه، وتطبيق سياسات صارمة لمنع التجاوزات، كلها خطوات ضرورية لتفادي كارثة بيئية واقتصادية مستقبلية. كما أن إدارة مركزية مستقلة للملف المائي، لا تهتم للتجاذبات السياسية والمحاصصة، تعتبر من أهم المتطلبات لضمان توزيع عادل ومستدام للمياه، وحماية الحقوق السيادية للعراق، وتأمين حياة كريمة للمواطنين.
وتتقاطع التحذيرات من المختصين والسياسيين عند نقطة محورية: أن أزمة المياه في العراق ليست آنية ولا ظرفية، بل هي مسار طويل سيزداد تعقيداً بفعل التغيّر المناخي وسياسات دول الجوار. ما يجعل الحاجة إلى حملات توعية واسعة مسألة ملحّة، ليس فقط لترشيد الاستهلاك، بل لبناء ثقافة مجتمعية تدرك أن المياه ثروة نادرة يجب التعامل معها باعتبارها ركيزة للبقاء.
اليوم، يقف العراق عند مفترق طرق: إما أن يواصل ترحيل الملف وتجاهل المخاطر، أو أن يتعامل معه بجدية كملف سيادي، عبر إصلاحات جذرية تبدأ بإدارة مركزية قوية، وتستند إلى حلول تقنية حديثة، وتستثمر الضغط الشعبي والدبلوماسي في المطالبة بحقوق العراق المائية من دول المنبع.