اخر الاخبار

يواجه العراق أحد أكثر التحديات الاجتماعية والاقتصادية تعقيداً، إذ تكشف الإحصاءات الحديثة لتقرير الفقر المتعدد الأبعاد لعام 2024 عن واقعٍ صادم، حيث يعيش أكثر من 36.8 في المائة من العراقيين – أي ما يعادل نحو 17 مليون شخص – في دائرة الفقر متعدد الأبعاد، بينما يعاني 17.5 في المائة آخرون من فقر الدخل المباشر، أي أنهم يعيشون على متوسط دخل شهري يقل عن 137 ألف دينار!

هذه الأرقام لا تقتصر على كونها مؤشرات اقتصادية جامدة، بل تعكس خللاً بنيوياً في السياسات الاجتماعية، وغياب العدالة في توزيع الموارد، وتراجع الخدمات العامة في مجالات التعليم والصحة والعمل والسكن.

وفي ظل هذه المعطيات، تتجه الأنظار نحو مدى قدرة استراتيجية مكافحة الفقر 2026–2030 على تحقيق هدفها الطموح بخفض نسبة الفقر إلى 8–9% فقط، وسط انتقادات حادة من خبراء الاقتصاد والمجتمع لضعف المعايير الحكومية المعتمدة وتراجع فاعلية برامج الإصلاح.

أرقام تكشف عمق الأزمة

وكشف الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي أن تقرير الفقر المتعدد الأبعاد لعام 2024 الذي صدر في العراق، أظهر أن 36.8% من العراقيين، أي ما يعادل نحو 17 مليون شخص، يعانون من الفقر المتعدد الأبعاد.

وأوضح المرسومي أن هذا النوع من الفقر يُقاس وفق خمسة مؤشرات رئيسية تشمل: التعليم، والصحة، ومستوى المعيشة، والعمل، والصدمات الاجتماعية والاقتصادية، ما يعكس عمق التحديات التي تواجه التنمية البشرية في البلاد.

وأضاف أن التقرير أشار أيضًا إلى أن 17.5% من العراقيين يعانون من فقر الدخل، أي أنهم يعيشون على متوسط دخل شهري يقل عن 137 ألف دينار فقط.

كسر حلقة الفقر

وقال الباحث الاقتصادي عبد الله نجم إن "قياس فعالية الاستراتيجيات لا يقتصر على متابعة المؤشرات الاقتصادية مثل معدلات الدخل أو البطالة، بل يجب مراقبة جودة الحياة بشكل شامل، بما في ذلك وصول المواطنين إلى التعليم والصحة والخدمات الأساسية، وتحسن البنية التحتية، وارتقاء مستوى المعيشة في المناطق الريفية والحضرية على حد سواء."

وأضاف نجم أن "الاستطلاعات الميدانية ومؤشرات الرضا الاجتماعي تعد أدوات مهمة لفهم أثر السياسات على الفئات الأكثر هشاشة"، مشدداً على أن "خلق سوق عمل مستدام ممكن، لكنه يتطلب إصلاحات هيكلية طويلة الأمد وتنويع الاقتصاد عبر دعم القطاعات غير النفطية مثل الزراعة والصناعة والخدمات الرقمية والسياحة، وفتح المجال أمام الشركات الصغيرة والمتوسطة لتوظيف الشباب."

وأشار إلى أن "الاستثمار في التعليم الفني والتقني والتدريب المهني يخلق قوة عاملة قادرة على تلبية احتياجات السوق المستقل عن تقلبات أسعار النفط، ما يقلل من هشاشة الأسر ويحد من دورة الفقر المتجدد."

ويرى نجم أن "الثقة بين المواطن والدولة تبدأ بالشفافية والعدالة في توزيع الموارد والخدمات"، داعيًا الحكومة إلى تبني سياسات مستدامة تركز على تمكين الفئات الضعيفة وتحسين خدمات الصحة والتعليم والبنية التحتية، مع الحد من الفساد البيروقراطي وتوسيع المشاركة المجتمعية في صنع القرار لضمان المحاسبة والعدالة الاجتماعية.

أهداف طموحة وواقع معقد

وتتحدث "إستراتيجية مكافحة الفقر 2026–2030" عن خفض النسبة الإجمالية للفقر إلى 8–9% من خلال التركيز على محاور الإسكان والتعليم والصحة وتمكين المرأة والتكيف المناخي، في محاولة لإعادة رسم الخريطة الاجتماعية للاقتصاد العراقي.

لكن المراقبين يرون أن هذه الأهداف لن تتحقق دون إصلاح جذري في بنية الإنفاق العام وتحديث بيانات الفقر الحقيقية التي تستند إليها الخطط الحكومية.

معايير قديمة لا تعكس الواقع المعيشي

وقال الخبير الاقتصادي صالح الهماشي، إن خط الفقر في العراق لا يزال يُحدد وفق معايير قديمة لا تتناسب مع الأوضاع الاقتصادية الحالية وارتفاع تكاليف المعيشة، مشيراً إلى أن الجهات الرسمية، وفي مقدمتها وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، ما زالت تعتمد مؤشرات تعود إلى سنوات مضت.

وأضاف الهماشي لـ"طريق الشعب"، أن الحد الأدنى للأجور المعتمد في قانون العمل لعام 2015 ما زال محدداً بـ 350 ألف دينار عراقي، وهو المبلغ الذي تستند إليه الدولة لتحديد خط الفقر، معتبراً أن هذا الرقم لم يعد واقعياً في ظل الارتفاع الكبير في الأسعار.

وأوضح أن "هذا المبلغ لا يمكن أن يؤمن حياة كريمة للمواطن العراقي، إذ أن تكاليف المعيشة الشهرية تتجاوز بكثير هذا الحد، ووفق تقديراتنا الاقتصادية فإن خط الفقر الحقيقي يجب ألا يقل عن 650 ألف دينار شهرياً."

وأشار إلى أن أغلب الخدمات الأساسية مثل الصحة والنقل والتعليم أصبحت تُدار بشكل شبه كامل من قبل القطاع الخاص، ما أدى إلى زيادة الأعباء المالية على المواطنين.

وزاد الهماشي بالقول إن ارتفاع بدلات الإيجار وأسعار المواد الغذائية والوقود جعل من الصعب على الأسر ذات الدخل المحدود تلبية احتياجاتها الأساسية.

وفي ما يتعلق بسوق العمل، كشف أن نحو 600 ألف عامل جديد يدخلون السوق سنوياً، في حين أن الدولة لا تستطيع توفير أكثر من ألف فرصة عمل سنوياً فقط، وهو ما يؤدي إلى تفاقم البطالة والفقر في آنٍ واحد.

واختتم الهماشي بالتأكيد على أن إجراءات الإصلاح الاقتصادي الحالية لا تزال خجولة ولا ترتقي إلى مستوى التحديات، داعياً الحكومة إلى مراجعة سياساتها الخاصة بخط الفقر والأجور وتفعيل برامج الضمان الاجتماعي لحماية الفئات الضعيفة.

الفقر يهدد تماسك الأسرة والمجتمع

وترى الباحثة الاجتماعية بلقيس الزاملي، أن الفقر في العراق لم يعد مجرد مسألة دخل منخفض، بل أصبح ظاهرة متعددة الأبعاد تهدد بنية الأسرة وتماسك المجتمع.

فالأسرة العراقية، بحسب الزاملي، تعيش تحت ضغوط متراكمة نتيجة حرمان الأطفال من التعليم والخدمات الصحية الأساسية، ما ينعكس على العلاقات الأسرية ويجعل بعض أفرادها أكثر عرضة للتسرب المدرسي أو الهجرة الداخلية بحثًا عن فرص أفضل.

وأوضحت الزاملي، أن ضعف الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والسكن يفاقم المشكلة، إذ إن المواطن الذي يعيش في منطقة بلا مدارس أو مستشفيات كافية يجد نفسه عاجزاً عن تحسين مستوى معيشته حتى لو كان دخله يغطي الحد الأدنى من الاحتياجات.

وأضافت أن غياب التمكين الاقتصادي للنساء يضاعف آثار الفقر عبر الأجيال، ويحد من قدرتهن على الاستثمار في تعليم أبنائهن وتحسين جودة حياتهم، ما يحافظ على دائرة مغلقة من الحرمان الاجتماعي والاقتصادي.

كما حذرت الزاملي من أن الصدمات البيئية مثل الجفاف والعواصف الترابية تدفع العائلات الريفية إلى الهجرة نحو المدن، ما يزيد الضغط على الخدمات الحضرية ويخلق بؤراً جديدة من الفقر الحضري والهشاشة الاجتماعية.

وتعلق الزاملي على التوزيع غير المتكافئ للموارد بين المحافظات باعتباره أحد أهم أسباب التوتر الاجتماعي في العراق، مشيرة إلى أن الفجوة بين المدن الكبرى والمناطق الريفية أو الجنوبية تولد شعوراً بالتمييز والغبن، ما يعمق الإحباط الاجتماعي ويقوّض فرص التنمية المتوازنة.