اخر الاخبار

أمريكا كأحد وسطاء منبر جدة لرعاية الحوار السوداني بين طرفي النزاع الجاري منذ ٦ أشهر، ظلت تدعو لمواصلة الحوار بلا شروط ودون ان تستخدم اية ضغوط حتى نهاية الشهر الماضي، حين اعلنت وزارة الخزانة عقوبات على شخصيات كبيرة في الحركة الاسلامية، وشركات عائدة للدعم السريع. وقد شملت علي كرتي الامين العام للحركة الاسلامية والذي اتهمته الخارجية الامريكية هو وقيادات في حزبه بالعمل على اشعال فتيل الحرب وتعويق كل الجهود المبذولة للوصول الى اتفاق سلام.

ويبدو ان الادارة الامريكية قد اقتنعت بان قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان لن يأتي الى مائدة التفاوض وهو واقع تحت تأثير قيادات التيار الاسلامي المتشدد. فرفعت عصا العقوبات في وجه هذا التيار. بعد ان أخبر متحري المحكمة الجنائية الدولية كريم خان الجنرال البرهان بان التحقيقات في اقليم دارفور سوف تشمله.

العقوبات ضد قائد الحركة الاسلامية تشمل قيودا على التأشيرة، ما يعني تقييد الحركة. وإذا تطور التحقيق مع البرهان الى توجيه اتهام او مطالبة بالمثول امام المحكمة، فان قيادة الدولة تكون بذلك قد عادت الى الدائرة التي ظل يقبع فيها البشير حتى سقوطه.

ردّ البرهان على الضغوط الأمريكية في خطاب له في مدينة عطبرة وآخر في معبر ارقين بأن لا تفاوض مع مليشيا متمردة، وان التفاوض ان حدث سيكون (بشروطنا نحن وبشروط الشعب السوداني) على حد تعبيره. كما سخرت الحركة الإسلامية من قائمة العقوبات الأمريكية الصادرة في حق أمينها العام واعتبرتها قلادة شرف في عنقه. ولم يعد التنظيم الإسلامي في حاجة، لان يخفي علاقته بالحرب الدائرة الآن ووقوفه ضد الوصول الي اتفاق ينهي النزاع، كما أطلقت الحركة الإسلامية في حملة استنفار وحشدت اتباعها للقتال الى جانب الجيش وراح قادتها يجوبون الآفاق وهم يدعون لاستمرار الحرب حتى القضاء على ما يسمونها بالمليشيا المتمردة، ومن يقفون خلفها من قوى الحرية والتغيير الذين اخذ الإعلام المحسوب على تيار الإسلاميين يتوعدهم بعواقب وخيمة بعد نهاية الحرب.

وفي مثل هذه الأجواء من الطبيعي ان تزداد حدة القتال والذي اخذ شكلا تدميريا خاصة في الخرطوم وفي مواقع الجيش الاساسية في المدرعات والمهندسين والقيادة العامة وقاعدة وادي سيدنا الجوية. كما نشط القتال في شمال كردفان والنيل الابيض بفتح جبهات جديدة في مناطق تندلتي وود عشانا وام روابة.

إذاً، وعلى خلفية اشتداد المعارك وضغط العقوبات الدولية يتجدد اللقاء بين الجيش والحركة الإسلامية بعد ان قطعت أواصره ثورة ديسمبر الشعبية.

فالجيش يعلم جيدا ان نهاية الحرب الحالية على اساس التفاوض المفضي بطبيعة الحال الى التسوية يعني تعدد مراكز القوة في سودان المستقبل مما يقوض سيطرة الجيش على الساحة السياسية التي كانت تعطيه وضعا متميزا بالنسبة الى القوى السياسية والمدنية بوضع مفاصل السلطة الأساسية ممثلة في الامن والدفاع والقضاء والنيابة العامة والعلاقات الخارجية والبنك المركزي تحت تصرفه دون منازع، تاركا للمدنيين ما تبقى من الحكومة وبسلطات مسلوبة، لان الجيش ببساطة ومن خلال هذه الوضعية يسيطر على أكثر من ٧٠% من الناتج القومي الاجمالي عوضا عن مشاركته في النشاط الاقتصادي، من خلال شركات الجيش التي فشلت حكومة حمدوك في وضعها تحت سيطرة وزارة المالية.

الإسلاميون لن يقبلوا بقسمة للسلطة تجعلهم خارج دائرة صنع القرار، كما تفيد كل مواثيق ثورة ديسمبر التي تشير الى مشاركة الجميع في الحكومة الانتقالية، عدا المؤتمر الوطني وهو المسمى الذي حكمت به الحركة الاسلامية في عهد البشير. ولو توقف الامر عند هذا الحد، كان من الممكن تجاوزه بتغيير الاسم ولكن المنع شمل عناصر النظام الذين هم كل قيادات الحركة الاسلامية. إذاً، عدم قيام الحرب كان يعني موافقة الجيش على الابتعاد عن السياسة، وان يقنع الاسلاميون بدور المتفرج حتى قيام الانتخابات.

كما ان احتكار الإسلاميين للسلطة وإبعادهم للآخرين هو الذي جعل احتياجات الحفاظ على الكرسي تتضخم حتى تبتلع ميزانية الدولة من خلال البذخ على اجهزة القمع. وفي الشهور الاخيرة من حكم الانقاذ، حين أصبح واضحا ان الازمة الاقتصادية في طريقها لان تعصف بجهاز الدولة اخذ يتردد همسا ثم أصبح جهرا وسط الاسلاميين أنفسهم ان الحل سياسي وليس اقتصاديا، وأخذت السلطة تقرب اليها سياسيين من معسكرات اخرى. بل ان بعض نواب المجلس الوطني وقتها طالبوا بإسناد وزارة المالية للشيوعيين، لأنهم يتصفون بالأمانة على حد تعبيرهم، وذلك في جلسات للمجلس مسجلة بالصورة والصوت.

كان الإسلاميون أنفسهم يقولون ان عددا محدودا من تجار العملة والمواد التموينية يتحكمون في اقتصاد البلاد لقربهم من مواقع صنع القرار، فاستقر الرأي حتى وسطهم بان الحل السياسي يتطلب توسيع قاعدة النظام باستيعاب المعارضة وهي الخطوة التي أجهضها البشير عن طريق تجيير الحوار الوطني لمصلحة تمكين الطغمة الحاكمة برئاسته ما قطع الامل امام اي خيار للإصلاح وفتح طريق الثورة. وفي سبيل ذلك سعت الانقاذ لاستقطاب عبد الله حمدوك وقتها ليشغل منصب وزارة المالية ولكنه اعتذر.

وبعد سقوط النظام أصبحت المعارضة او الاقسام التي كانت تسعى منها للمشاركة في النظام، غير راغبة في التعامل مع عناصره، بعد ان تم اقتلاعهم من السلطة.

إن التقاء الاسلاميين والجيش على قاعدة كسب الحرب واستعادة السلطة السليبة هو في نهاية المطاف ـ ان كتب له النجاح ـ يعني فقط اعادة انتاج الازمة الوطنية التي اودت بهم من قبل، ومن غير توسيع قاعدة النظام باستيعاب اقسام من المعارضة وادخال دماء جديدة من التكنوقراط هذه المرة.

 إن إعادة إنتاج الأزمة هي الالية التي درج عليها الجيش في تجديد سلطته كلما ضاقت بها الجماهير، غير انها تجيء هذه المرة في ظروف مختلفة، تتميز بعدم وجود فئة او طبقة اجتماعية مستعدة للتحالف معه، حتى تمنحه الشرعية المطلوبة، بخلاف قاعدة الإسلاميين التي تأجلت شرعيتها بحكم الفساد والاستبداد، ولم تعد مقبولة من اجزاء كبيرة حتى من قاعدتها.

عرض مقالات: