اخر الاخبار

من المعروف أن الموازنات السنوية عبارة عن بيانات رقمية تعتمد على تقديرات تخمينية، مبنية على توقعات وتصورات العاملين في إعدادها. لكنها أبعد ما تكون عن الواقع الاقتصادي والاجتماعي في شموله وتنوعه، وهذا ما يحصل في العراق حيث يجري اقرارها في البرلمان خلافا لنص المادة 61 من الدستور، كما يحصل في بعض البلدان النامية التي تتشابه مع واقعنا السياسي.

ومعلوم ان العديد من الدول التي تتبع نهجا اقتصاديا واقعيا أخذت تتخلى عن مفهوم الموازنة بوصفها اداة للسياسة المالية بحساب النفقات والايرادات لتحقيق توازن محاسبي، بل ذهبت أبعد من ذلك بأن يكون هدف الموازنة تحقيق التوازن الاقتصادي والاجتماعي للاقتصاد الكلي، فاتجهت الى موازنات البرامج بهدف تقليل التفاوت بين الطبقات الاجتماعية في توزيع الدخل، والتخلي عن موازنات البنود وهي النوع التقليدي كالذي يعتمد في بلادنا، لأن الاخيرة أداة للرقابة على الانفاق فقط وبالتالي فإنها لا تستخدم مقاييس وقواعد لتقييم الأداء وتحليل العائد والكلفة، من خلال التركيز على البرامج ومنهاج استغلال أفضل للموارد المتاحة.

من كل ما تقدم انتجت موازنات البنود مخرجات لا تجسد العدالة في توزيع المداخيل بين الطبقات الاجتماعية، ولهذا السبب تزايد عدد الفقراء في المجتمع العراقي ليصل حسب الكثير من المصادر إلى 13 مليون مواطن تحت خط الفقر ولا يزيد دخلهم اليومي على خمسة دولارات.

وكانت موازنة هذا العام مثل سابقاتها مجسدة لحرمان قطاعات الانتاج الحقيقي من الدعم الحكومي المطلوب من أجل اخراج الاقتصاد من حالة الانكماش التراكمي. فعلى سبيل المثال بلغت حصة وزارة الزراعة في هذه الموازنة 300 مليار دينار عراقي، فيما جاء نصيب وزارة الصناعة 1173 مليار دينار، وكلاهما يمثلان   0،9 في المائة من إجمالي النفقات العامة، فيما بلغت النسبة في موازنة عام 2019 1،5 في المائة. ومن جهة أخرى انخفضت تخصيصات البطاقة التموينية التي تعتمد عليها الطبقات الفقيرة في موازنة هذا العام لتصبح 795 مليار دينار، فيما بلغت تخصيصاتها 1،5 تريليون دينار في موازنة عام 2019، اي بانخفاض نسبته 48 في المائة.

كما ان حجم الاستثمارات في موازنة هذا العام تبلغ 19،6 مليار دولار مقابل 27،8 مليار دولار في موازنة 2019، ويترتب على ذلك تباطؤ في معدلات النمو وتقلص في فرص العمل، فيما تتزايد معدلات البطالة وضحيتها ملايين الشباب العاطل خاصة المؤهلون علميا للعمل، وأسفر ذلك عن تحطيم الموار البشرية وتآكل طاقاتها الانتاجية وتعاظم الاحتجاجات المطلبية.

   ويصاحب هذه المنهج الباعث على التشاؤم تدعيم للسياسة الاستيرادية التي تفسح المجال أمام الطبقة الاوليغاركية المالكة للمصارف، للاستحواذ على العملة الصعبة من نافذة البنك المركزي، واتساع عمليات تهريب العملة إلى الخارج والتي تقدر بـ 500 مليار دولار عبر السياسة الاستيرادية الفاشلة، مما يؤدي إلى إعاقة عمليات الاستثمار في القطاعين العام والخاص، وحرمان الخزينة من ضرائب تقدر بـ 8 تريليونات دينار سنويا.

إن إعادة النظر في فلسفة الموازنات السنوية باتت حاجة ضرورية، تتطلب من الدولة مراجعتها على أساس مبدأ البرامج وليس البنود، من أجل تنمية حقيقية وعدالة ملموسة في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية وتوزيع الدخل.

والمقترح بهذا الخصوص هو التالي:

*زيادة حجم التخصيصات المالية الموجهة للاستثمار في الموازنات السنوية، لتزيد على 40 في المائة من اجمالي النفقات العامة، من اجل تحقيق زيادة في الانتاج المحلي الاجمالي وزيادة فرص العمل في قطاع الانتاج.

*إعادة النظر في هيكلية الانفاق الكلي في الموازنات السنوية بما يحقق نموا في مداخيل الطبقات الفقيرة في المجتمع، عبر توسيع الخدمات وتحسينها في مجال الصحة والتعليم وفرصها في الضمانات الاجتماعية.

*وضع الخطط الكفيلة بتحريك المشاريع المعطلة، نتيجة الاهمال الحكومي والتجاوز على تخصيصاتها عبر عمليات الفساد في العقود وضعف كفاءة اداراتها وهزال أدائها، والتي يجري اختيارها وفق النظام التحاصصي الجائر. 

عرض مقالات: