اخر الاخبار

بعض الأسماء تنقش لها مكانا  بارزا  ليس فقط في الذاكرة ، وليس في سجلات نضال الرجال والتميز بالعطاء والالتزام والثبات على القيم والمباديء ، إنما تحفر لها مكانا متميزا في تأريخ نضال العراقيين  ضمن صفوف الحركة الوطنية ،  حيث يبقى الاسم محاطا بالمهابة والتقدير ، مقترنا بالإجلال والزهو ،  بعض هذه الأسماء تتميز بالتواضع والثقة بالنفس ، يبقى دورها وتاريخها وما قدمته من مواقف لا تحتاج الى بهرجة إعلامية  وتزويق ، فقد اقتنعت تماما بأن العطاء يتجسد بموقف، والنضال يتجسد بالثبات، ومثل هذا الاسم لايمكن للنسيان أن يطرحه جانبا بعد كل هذا التاريخ ، والموقف يشكل جزءا ثابتا من تاريخ حركتنا الوطنية .

معيار بقاء الاسم حيا وفي الذاكرة تلك المواقف التي تعكس بحق الفكر الإنساني الذي يؤمن به الفرد، وما يتركه من عميق الأثر عند الاخر، وديمومة العطاء التي يقدمه رغم كل ظروف المواجهة، المعيار يكون وفق ما يسجله التاريخ من أحداث ومواقف ووقائع له. 

يمكن أن يكون أسم الراحل المهندس شاطي عودة محمد ((أبو سمير)) غائبا عن الكثير من شباب العراق اليوم، والعذر أنهم لم يعاصروا الفترة التي كان فيها الراحل عمودا من أعمدة الحزب الشيوعي العراقي، ومناضلا بارزا يعتمد عليه ويتباهى به التنظيم، ويمكن أن لا يتعرف البعض الآخر على ما يشكله أسم شاطي عودة من مكانة وشخصية عاشت ضمن فترات حرجة من تأريخ العراق، ويسجل للراحل تلك الصفات التي لم يزل يعرفها عنه كل من تعرف عليه، ومن عمل معه في التنظيم أو زامله في السجون والمعتقلات.

تم اعتقال شاطي عودة  محمد بعد ساعات من انقلاب شباط 1963 عصر يوم  الجمعة ، واقتيد الى التحقيق بسيارة الحرس القومي صحبة كل من  إبراهيم كبة وعبد الجبار عبد الله وخالد الجادر وشاكر خصباك ، حيث تم نقلهم بسيارة واحدة الى هيئة التحقيق ، وبالرغم من كل أساليب التعذيب الجسدي والمعنوي والأساليب الهمجية التي عرف بها أسلوب تحقيق الحرس القومي، لم تتمكن الهيئة التحقيقية النيل من صموده وصلابته،  وبعد أن أنهك جلاديه اقتيد الى سجن رقم ( 1 ) وأودع في زنزانة ضمت عشرين شخصا وهي لا تتسع لأكثر من ثلاثة أشخاص   ، وتم التعامل معهم بغاية السوء والخسة، وبعد أن أمضى مدة شهر في هذه الزنزانة ومع التعذيب المستمر ، اقتيد الى المجلس العرفي العسكري ليحكم عليه بالسجن لمدة ثلاث  سنوات  .  

أرسل الى سجن الحلة المركزي مع المئات من السجناء السياسيين ( الشيوعيين ) ، ولدماثة خلقه وتواضعه الجم وأدبه الرفيع ومحبة السجناء واحترامهم تم انتخابه مسؤولا عن السجناء، وكان شاهدا من شهود العملية الجريئة التي قادها الشيوعيون في حفر نفق سجن الحلة الشهيرة ، والتي تم تنفيذها بأدوات بسيطة وبمهارة فائقة وبسرية تامة ، وساهم الراحل شاطي عودة بالتمويه على عملية الحفر ، وذلك بأشرافه على بناء حاجز في الجهة الشمالية من السجن والتي كان المطبخ في مواجهتها، وتم إخفاؤها عن أعين  نقطة حرس السجن  التي تواجه منطقة الحفر .

كان الراحل مهتما بملاحظات السجناء، وعمل على تعزيز وحدتهم داخل السجن، وتميز بحديثه الدافيء مع الآخرين، وعرف عنه التزامه الفكري، تميز بسمرته العراقية وبطوله الفارع وبالهدوء الذي اتسمت به شخصيته.

بعد أن أكمل الراحل شاطي عودة محكوميته، كان ضمن أعداد الآلاف من المفصولين السياسيين الذين لم تتم إعادتهم لوظائفهم حتى بعد انتهاء محكومياتهم، عمل مع بعض المقاولين في مشاريع ناجحة، ولعل أبرز تلك المشاريع الأشراف على الجهد الهندسي لبناء جسر الديوانية الحديث، ومن خلال مركزه الهندسي عمل على إلحاق العديد من المفصولين السياسيين بالعمل في الجسر، وكنت واحدا منهم، وجسد لنا شاطي عودة مثالا متميزا من أمثلة التفاني لرفاقه وإخلاصه لمباديء الشيوعي الملتزم.

في العام 1971 تم انتخابه ضمن الهيئة الإدارية لنقابة المهندسين بالرغم من كونه مفصولا سياسيا ، وأعاد الكرة مرة أخرى في العام 1972 حيث تم انتخابه لعضوية الهيئة الإدارية ، غير انه في العام 1973 وبعد توقيع الجبهة الوطنية بين حزب البعث والحزب الشيوعي ، تم تعيينه مديرا عاما للري ، بعد أن أصبح الرفيق مكرم الطالباني وزيرا للري ، واختياره لإدارة مرفق عام مهم جدا في العراق لم يكن اعتباطا أن يتم اختيار المهندس شاطي عودة لأدارته ، وهو المعروف عنه دقته ودراساته الهندسية الناجحة ، ولهذا تمكن  الراحل شاطي عودة أن يحدث تحولا جذريا فريدا في عمل دوائر الري في العراق ، وتم إنجاز مشاريع عديدة بنجاح كبير ، ولما اشتكى بعض البعثيين من تحول مديرية الري الى خلية شيوعية لأن غالبية المهندسين والفنيين من الشيوعيين ، ألجمهم رده  الصاعق من أن سير العمل وإنجاز المشاريع بشكل ناجح هو المعيار ، وليس للهوية السياسية وهذا يصب في مصلحة العراق.

ويسجل التاريخ للراحل الكبير تلك المآثر العديدة التي وقف بها مع كل من يحتاج الى وقفة دعم ومساندة بحق، ووقفته مع خريجي المعهد الزراعي العالي للإقرار بنيلهم لقب (معاون مهندس زراعي) دليل باق في الذاكرة بعد أن تحقق ذلك، بالرغم من انه لا يقع ضمن اختصاصه، لكن الكفاءة والنزاهة والمصلحة العامة هي التي تبقى تتحكم في مشاعر النبيل شاطي عودة.

بقي المهندس شاطي عودة  محمد علما عاليا ومتميزا ، ملتزما بتواضعه ومحبته للناس ، مخلصا للمباديء والقيم التي آمن  بها ، وبعد تدهور العلاقة بين السلطة والشيوعيين وقبل عام 1978 تم تغيير عنوان وظيفته الى مستشار بوزارة الري  ، بقي صامدا ومتمسكا بأفكاره بالرغم من كل الضغوط والممارسات التعسفية ، حتى وافته المنية في بيته بمنطقة المنصور ببغداد بتاريخ  13/11/1997 ، لتنتهي رحلة العطاء التي ما تخلف عنها يوما ، ويتوقف القلب الكبير تاركا خلفه سجلا ناصعا من المواقف ، وحافلا من الذكريات التي ستبقى أبدا في ذاكرة الطيبين من أبناء العراق .

ويسجل التاريخ لشاطي عودة التواضع الذي عرفه عنه ليس رفاقه في الحزب إنما جميع من عمل معهم مفصولا سياسيا أو مديرا عاما للري، ويسجل له أيضا احترام وتقدير العديد من أعداء الحزب الشيوعي من الرجعيين والبعثيين لشخصيته التي تميزت بالإخلاص في العمل والنزاهة والمثابرة الجادة، ترك خلفه مواقف ومآثر تحكي عن تأريخ هذا الرجل المتميز بالهدوء والتروي، وصاحب الابتسامة الهادئة، والمحدث اللبق البارع، والحكيم الذي ما تمكنت الظروف وأنواع القهر وأشكال الملاحقات.

وسيبقى أسم شاطي عودة نموذج للشخصية العراقية المتمسكة بالمباديء فعلا وقولا، ومثالا فريدا في الالتزام والخلق والبساطة لتجسيد صورة الشيوعي العراقي بشكل ناصع ومضيء.  

عرض مقالات: