اخر الاخبار

صدر هذا العام 2021 كتاب (هذا هو موفق محمد) للباحث أحمد الناجي عن دار الفرات للثقافة والإعلام -العراق- بابل. وقد جاهد الباحث أن تكون دراسته على وفق منهج النقد التاريخي الأدبي كما ذكر، ولذلك عمد على تقسيم بحثه إلى أربعة فصول وسبقتهما مقدمة من دون أن يختمه بخاتمة يثبت فيها استنتاجاته، وأحسبها ضرورية لمثل هذا البحث الجاد والخاص بشاعر يعد من أبرز الشعراء في الوقت الحاضر وفي تجربته الكثير من الموضوعات التي تستحق الدراسة بعقلية ومنهجية الناقد المهني بعيدا عن الانحياز الذي أحيانا يفرضه الإعجاب الكبير بمواقف ومنجز الشاعر. وأحسب أن صديقي الناقد كان من المعجبين بالشاعر وأنا كذلك ولكن للدراسات النقدية المحايدة حقها.

في المقدمة وضح الباحث ماذا يعني منهجه؟ أي دراسة الظاهرة وما حولها وربما هذا ما دفعه لتناول السيرة الشخصية للشاعر في الفصل الأول والتي استغرقت أكثر من خمسين صفحة وكانت كافية لتكون مدخلا للدراسة.

ولكن الباحث دخل في تحليل القصائد الشعرية وما ذكره النقاد والباحثون من آراء حولها وعلى رأسهم الناقد الكبير ناجح المعموري الذي لازم منجز الشاعر منذ بداياته وظل حاضرا في تقويم كل تجربة الشاعر التي اختص بها هذا الكتاب ولفاضل ثامر حضوره وياسين النصير ود. سمير الخليل وقاسم عبد الأمير عجام. ود. مالك المطلبي... ثم تناول استخدامات الشاعر للغة العامية أو المحكية وقد أفاد مما كتبه نقاد آخرون من أمثال: عبد الرحمن طهمازي ومارون عبود مستشهدا بتوظيفات بدر شاكر السياب الذي اقترب من لغة الكلام اليومي معتمدا على ما ذكره د. عز الدين اسماعيل الذي يفترض “  في لغة الشعر ألا تكون لغة الناس وأن تكون لغتهم في آن واحد” وكنت أفضل أن يفرد الباحث مبحثا خاصا في هذه الموضوعة المهمة والتي تشكل سمة أساسية في شعره وخاصة قصائده التي كتبت ما بين (2003-2020) ولم يكتف الباحث بهذا بل وجدته قد تناولها في كل فصول كتابه. وينطبق القول ذاته على موضوعة السخرية التي انمازت بها قصائده. وهي ليس التجربة الوحيدة في المنجز الشعري العراقي والعربي ولذلك كانت تستحق الدراسة المعمقة إلى جانب التجارب الأخرى مثلا تجربة نزار قباني وقصائده الساخرة وكذلك تجربة الشاعر العراقي أحمد مطر مع الفارق بين خصوصية تلك التجارب وتجربة موفق محمد ومدى تأثيرها على المتلقي. ولقد كان الباحث محقا  عندما ربط بين الشاعر ومدينته الحلة وتأثير هذا المكان على شاعريته وكل الشواهد التي ذكرها تجعل المتلقي مقتنعا بهذه العلاقة المتعمقة في وجدان الشاعر وهي حالة مشتركة بين أعلام الحلة مثل الناقد الدكتور علي جواد الطاهر والمطرب سعدي الحلي  والشاعر الشعبي محمد علي القصاب... وقد أسهب الباحث في ذكر هذه الحالات وهذه العلاقة التي أبعدته قليل أو كثيرا عن موضوعه الأساس وهو الشاعر الكبير موفق محمد. على الرغم من أن المعلومات التي أوردها كانت ممتعة جدا ومفيدة... وأعطت صورة عن تجربة هؤلاء النقاد والشعراء، تفيد القارئ وكان يمكن أن تكون مشروعا لأكثر من كتاب ... وأرى أن الباحث لقادر على انجازها بمعرفة ومنهجية عاليتين، والسهر على ايجاد المعلومات وشهادات الباحثين الكثيرة وتوظيفها ارتباطا بتجربتهم الفذة والعميقة.

     وجدت التحديد الزمني لمنجز الشاعر موفق محمد شكل التباسا، إذ لم يتسن للباحث الالتزام به، ففي معرض حديثه عن الحقبة المحدد بين 1948 -1990، يضطر أن يستشهد بقصيدة كتبها الشاعر في 2007 تحت عنوان (محلة الطاق) وهو الحي الذي ولد فيه الشاعر والقصيدة هي استرجاع لتلك الحقبة، ولكن مكانها منهجيا في الفصل الثالث. ومثال آخر قصيدة (سبع عيون) كتبت عام 2000 لكنها تتحدث عن الحرب العراقية – الإيرانية (1980- 1988) وهنا جاءت منسجمة مع التحديد الزمني للفصل الثاني (1990- 2003) إلا أن موضوعها ضمن الفصل الأول. لذلك كنت أفضل أن تكون الفصول مقسمة على عناوين تتناول أبرز الموضوعات التي تعد عتبات أساسية في خارطة التجربة الشعرية لموفق محمد وإضافة لما ذكرته: هناك موضوعات أخرى طاغية في تجربة موفق محمد الشعرية منها: توظيف اللغة العامية المحكية في قصائده والتي أشرت لها سريعا، القص في القصيدة، توظيف الآيات القرآنية والتراث الديني، تخليد شخصيات حلية وعراقية في شعره ومنهم: الشهيدان سلام عادل، كامل شياع. والأصدقاء: حسن عمران، جعفر هجول، جاسم حسين الصكر، حمزة الحسيني وغيرهم.        

    بدأ موفق محمد الكتابة الشعرية في عام 1964 لكن فترة نضجه هي السبعينيات وأنا من المتابعين له، لذا اتفق تماما مع الناقد فاضل ثامر الذي أكد على أن الشاعر موفق محمد، استقطب الأنظار في السبعينيات عندما نشر قصيدته (الكوميديا العراقية). ولم يتوقف حتى في زمن الحصار الفكري والثقافي، إلى جانب الحصارات الأخرى دون أن يساير، وهذه أقسى أنواع المقاومة. وجاءنا الباحث بالعديد من الأمثلة. التي ركز عليها الشاعر وكان من سماتها ثيمات الموت، عدد من قصائده التي كتبها في التسعينيات ارتباطا بالحصار، وانحسار كل شيء إلا الموت اليومي بسبب أو بدونه، فالتوابيت، والمقابر، والحروب والأزمات والمآسي، والفناء، والتشرد، وانسداد الحياة، والألم والعذاب سمات يومية لتلك المرحلة جعلت الموت اليومي في تزايد، احساس الشاعر بهذه الأزمات عبر عنها شعريا:

“ ولكي نخفف من سمنة المقابر

 صار لازما أيضا

 أن نحرق موتانا لنعيد إليها رشاقتها

 بأطباق من الرماد...”

   وبودي أشير إلى ملاحظة أخرى وهي تخص الفصل الرابع المعنون (أنشطة وأصداء في مدارات الشعر) تناول فيه نشاطات موفق محمد الثقافية في الخارج والداخل وأظنها هي بعض نشاطات واسعة عرف بها الشاعر وقد أعطت صورة عن دوره في هذا المجال وقد استغرقت 37 ورقة فقط وأمام الفصول الأخرى التي كان أقصرها الأول 95 صفحة والثاني 106، والثالث: 125 صفحة  ولذلك كنت أفضل أن يكون  الرابع حسب أصول البحث الأدبي جزء من فصل أو موزعا على الفصول حسب معيار معين مناسب أو أن يكون ملحق بالبحث. دون التقليل من أهميته في هذا البحث وروعته.

   وتحسب للباحث عثوره على مجموعة من القصائد التي لم تنشر في الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر موفق محمد.

  ولم تفت الباحث أحمد الناجي الكتابة عن دور الشاعر موفق محمد وحضوره الدائم في احتفالات الحزب الشيوعي العراقي المركزية في بغداد، والمحلية في المحافظات فقد كتب واصفا: “ هذا الشاعر التقدمي الخافق بأجنحة القلب، والتائق دوما صوب الجهة اليسرى، مشاعره ورؤاه تنبض في فضاء الإبداع، معبرة عن أصدق المواقف التقدمية النبيلة، مضيئة متلألئة دافئة، تمثيلا لوجهة هذا التيار الفكري ونضالاته المعروفة.”     

   وأخيرا لابد من القول: إن الملاحظات التي ذكرناها لا تقلل من شأن الكتاب والجهد المبذول المتميز من قبل الناقد أحمد الناجي، فلقد قرأته قراءة جادة، واستمتعت به كثيرا، مبحرا في عالم الشاعر الكبير موفق محمد الذي امتد أكثر من نصف قرن،  وما زال يرفدنا بجديده الأجمل، ولابد من الإقرار بأن هذا المنجز سيكون اضافة نوعية للمكتبة العراقية والعربية والباحثين.  

عرض مقالات: