اخر الاخبار

الحياة تقوم على الثنائية من يوم وجدت على هذا الكوكب وحتى فنائها، وهذا لا يخص وجود الإنسان فقط بل يشمل كل مظاهر الكون وكائناته وكل المفاهيم والأفكار التي تُنتج من خلال الصراع الطبيعي بين المتناقضات.. مازال السؤال التقليدي قائما منذ آلاف السنين، حين وعى الانسان وجوده على هذه الارض، من خلق هذا الكون، هل هي الفكرة (الكلمة) كما ورد في النص الديني المسيحي (في البدء كانت الكلمة) أو كما ما جاء في القرآن الكريم (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون..) يس: 82، أم أن هذا الواقع قد وجد من خلال الانفجار العظيم منذ أكثر من ثلاثة عشر مليار سنة حسب ما يقول العلم، وبعد ذلك ظهر الانسان متأخرا ومعه نضجت الكلمات والأفكار والمفاهيم وكل ما يتعلق به من مشاعر وسلوك أي إن الواقع المادي سبق الكلمة وهو الخالق لها، المثاليون يقولون إن الانفجار العظيم إن حصل فعلا فهو أيضا من كلمة عليا.. إذن هناك منطلقان فكريان ديني (مثالي) وآخر واقعي (مادي). ما زال هذان المفهومان للوجود والخلق متصارعين في العقول منذ أن ظهر الإنسان العاقل الذكي (الهوموسايبينز) وتشكل التجمعات البشرية وممارسة مهنة الزراعة. هاتان النظريتان الفلسفيتان كل منهما لها أدوات فعلها في الخلق والوجود وتصوغ المجتمعات حسب معتقداتها وطقوسها وتفرض علائقها الاجتماعية وأفكارها ومفاهيمها الخاصة بها للحياة الراهنة وحتى ما بعد الموت. من خلال مراحل التطور الخاصة بالمجتمعات وتغيّر العلاقات الإنتاجية بسبب من تبدل قوى الإنتاج نتيجة للتقدم الحاصل، منذ قرون، في العلوم واندثار النظام الاقطاعي وحصول القفزات الهائلة في الصناعة وحداثة المجتمعات نتيجة الثورة العلمية التكنولوجية والحتمية التأريخية تبلور في النهاية نظامان اقتصاديان عالميان متصارعان هو النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي.. النظام الرأسمالي، نظام الملكية الخاصة، يمثل هرم الفكرة الدينية المثالية له فلاسفته ومنظروه لأن هذا النظام يقوم على فكرتين دينيتين، في الجانب الاقتصادي حيث قانونه الأساس هو فائض القيمة المأخوذ من فكرة الربا في الديانة اليهودية، أما جانبه العالمي الأممي فإنه يقوم على تعاليم الديانة المسيحية، التي انشقت عن الديانة اليهودية المغلقة التي لا تبشير فيها وأُنزلت على اليهود فقط حيث اليهودية لها وظيفتان دينية وقومية، المسيحية دعت إلى ديانة عالمية يعتنقها البشر وهي من تحرر الإنسان في النهاية من خلال المسيح المخلّص الذي قدم نفسه قربانا ليمسح ذنوب البشر وسيقوم في آخر الزمان من بين الأموات ليقيم العدل والمساواة في المملكة الإلهية. لقد انتعشت التيارات الدينية المعتدلة والمتطرفة في الحقبة الرأسمالية وصالت وجالت في آفاق الارض الأربعة لوجود نظام سياسي يحميها ويمنحها شروط القوة والبقاء ويدعمها بكل ما تحتاجه من مال وسلاح فظهرت الدول الدينية بمباركة ودعم الرأسمالية العالمية ودولها في العالم الغربي وأمريكا، بل أن هذا النظام استخدم هذه الدول والأحزاب والتيارات المتشددة لضرب كل نزوع تحرري وفكر مادي تقدمي في أية بقعة من الأرض، وقد لاحظت الشعوب ذلك بعد سيادة النظام الرأسمالي بعد انهيار النظام الاشتراكي في الإتحاد السوفياتي والبلدان الاشتراكية. ومنذ تسعينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا أصحبت الرأسمالية القطب الأوحد في العالم، هذا النظام القائم على الاستغلال واستنزاف ثروات الشعوب الفقيرة اغتربت روح الإنسان فيه وضمرت وأصبح كل شيء سلعة تباع وتشترى، من البشر إلى العقائد التي يؤمن بها، لا يُنكر ما تقدمه هذه الأنظمة لشعوبها من خدمات ووسائل عيش وعمران مدن ونظافة بيئة. ولأنه قائم على بنية اقتصادية استغلالية انتشرت الحروب الاستعمارية في بقاع الأرض كافة وضاعت القيم وتقطعت العلاقات، حتى الأديان تشوهت وتشرذمت إلى مذاهب وطوائف وأصبحت في خدمة الرأسمال ويده الضاربة بالخراب وعملت على نشر الخرافات والأوهام وقيم الظلام التي لا تنسجم مع العقل السليم، رغم أن هناك قفزات علمية باهرة كانت حتى زمن قريب مستحيلة الحدوث، ولكن العيش في الماضي ومحاربة المنطق العلمي والتحجر العقلي أدت إلى حصول تراجع ونكوص في الوعي الاجتماعي وحصول أزمة ثقافية شرسة خاصة في بلدان العالم الثالث المتخلفة التي ما زال اقتصادها ريعي ولا حضور لها في هذا الركب العالمي إلا كتابع ذليل إلى دهاقنة العالم الرأسمالي وشركاته الاحتكارية فازدادت مآسي المجتمعات وتضخمت الفوارق بين الأغنياء والفقراء وتسيدت الرثاثة والجهل والانحطاط وتفشي الغباء في كل المجتمعات وأصبحت الأزمات متلاحقة سياسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية وتحول الإنسان إلى كائن غريزي لا هم له سوى المزيد من الجشع والفساد والكراهية للآخرين وانحطت الآداب والفنون والأرواح صدئت وانطمرت والأفكار نضبت حتى أن البعض من البشر تحولوا إلى كائنات تأنف حتى الحيوانات منها. أمام كل أزمة يمر بها العالم الرأسمالي المتوحش يجد نفسه وجها لوجه أمام الماركسية وفكرها الاشتراكي المادي وعدالتها الأرضية وليست السماوية وقد ظهر هذا جليا في الأزمة الاقتصادية العقارية في نهاية القرن العشرين حيث رجع الرأسماليون إلى ماركس وقوانينه الاقتصادية لحل هذه المشكلة المستعصية وغيرها من الأزمات التي لا نهاية لها وهي تضرب هذا النظام بانتظام وتنذر بسقوطه، بعد أن عرفت الشعوب أكذوبة الديمقراطية والحرية والليبرالية التي يتمنطق بها الرأسماليون ومنظومتهم الدولية، وكيف أنه قائم على استغلال الشعوب ونهب ثرواتها وتدميرها كما حصل في افغانستان والعراق والاستعمار الغربي للبلدان الأفريقية ومصادرة ثرواتها المعدنية وجعلها ترزح في العيش تحت خطوط لا إنسانية ظالمة ومعاناة كل الشعوب التي تدور في هذا فلك فائض القيمة الذي تكشّف زيفه ولم يعد يقنع أحدا.. الفكر الماركسي منهج للحياة وهو الأقدر على تفكيك الواقع ودراسة ثوابته ومتغيراته، هو لا يقفز إلى الميتافيزيقيا والماورائيات لأنه يعتقد أن كل شيء نتاج هذا الواقع ولا شيء خارجه وكيفما يكون الواقع تكون كل الظواهر الوجودية وانعكاساتها على الإنسان والكائنات الأخرى سلبا كانت أم إيجابا. الماركسية منهج فكري صاغه ماركس وزميله انجلز وهي ليست عقيدة، أي أن نصوصها ليست سرمدية ومطلقة، بل بالإمكان تطويعها وتأويلها مع ما يتناسب من الظرف الاجتماعي. لقد حصل خطأ في تطبيق نموذجها الاشتراكي بداية القرن العشرين في الإتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية حين زينها العقل القاصر بالقداسة وأصبحت كالدين لا يأتيها الخطأ لا من قريب ولا من بعيد وحين واجهت الماركسية المتغيرات العلمية والسياسية الاجتماعية المهولة وقف منظروها الديماغوجيين بحيرة أمام هذه الانقلابات الحاصلة والانعطافات الحادة لا يعرفون كيف يتعاملون معها وكل من حاول أن يدلوا بدلو التأويل الخاص ويطوعها في تفسير المقولات الماركسية يرجم بالخيانة والتطرف والعدوانية وحصل فيها كما حصل في المنظومة الدينية من الاغتيالات والملاحقات والتسقيط والتغييب وهذا ما وضع الفكر الماركسي في زاوية حرجة ميتة أدى في النهاية إلى تراجعها وغرق فلاسفتها ومفكريها في بحار التأمل والشرود والانكفاء على الذات لعقود من أجل مراجعة الحسابات وتشخيص بؤر الخطأ والضعف والجمود للانطلاق ثانية، في المستقبل القريب، في عالم الإنسان الرحب المنشد للحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية وإعادة ضخ نبض الروح من جديد وترميم الثقافة والمعارف والعلوم خادمة الإنسان وإزالة المشوه منها وإعادة الثقة للإنسان كي يرجع إلى وضعه الطبيعي وتنشيط العقل باتجاه عملية خلق جديدة، أليس ماركس هو القائل ( الخرافة والوهم تنتجان حين يستخدم الإنسان عقله بطريقة لا عقلية ).. لقد جربت المجتمعات  النظام الرأسمالي وأذنابه من أحزاب دينية وحركات متطرفة وأنظمة دكتاتورية لقرون، وها هو اليوم وفي السابق حصدت الاستغلال والخراب بكل ألوانه والبؤس بأبشع صوره، ليس أمامها سوى الاشتراكية بمظهرها الجديد مستفيدة من بعض الكشوفات العلمية الراقية للنظام الرأسمالي في مجال الخدمات والصحة والعمران ليقيم على أنقاضه نظاما اشتراكيا عادلا مستنيرا بالماركسية المؤمنة بالجدل والتأويل حسب قانون نفي النفي وادخال المفاهيم والأفكار العصرية المصاحبة للكشوفات العلمية ليعيد الحياة للمجتمعات التي غادرتها الثقافة والقيم الإنسانية النبيلة ويزيح كل أنواع الاستغلال والاحتكار، لقد تنبأ ماركس ونبوءته بشرية وليست إلهية أن الاشتراكية تأتي بعد احتضار الرأسمالية في مرحلتها الاستعمارية الأخيرة. لا خيار للشعوب الا بالعودة إلى ماركس من جديد بقراءة مغايرة لأنه الفكر الحيوي الوحيد القادر على التكيف مع كل التحولات الاجتماعية والطبيعية وهو المنهج الشمولي في السياسة والاقتصاد والاجتماع والقانون والأخلاق والثقافة واحترام الأديان التي عليها أن تُكمل الجانب الروحي للإنسان وكما قال ماركس (الدين هو الروح في عالم بلا روح) وأن يبقى لقداسته بعيدا عن السياسة وتقلباتها ومزاجيتها ونزقها، وأن تعيش جميع الشعوب بمحبة تربطها المصالح الاقتصادية والأهداف الإنسانية النبيلة.. الماركسية هي الفكر الإنساني الذي لا فكرا من بعده...

 

عرض مقالات: