اخر الاخبار

شهد العراق حراكاً مدنياً واسعاً في تاريخه المعاصر، إلا أن أبرز ما يمكن أن يؤشَّر في سجّله هو انتفاضة تشرين عام 2019، فهذه النقطة المهمة في تاريخ الوطن هي نقطة لا يمكن مغادرتها بسهولة، لما لها من تأثير واسع، وانتشار ومواقف سُجّلت بدماء الشهداء في أسفار الزمن

لم تكن تظاهرات تشرين وليدة لحظتها القريبة، فقد مهّدت القوى المدنية والشخصيات الوطنية الطريق لها وهي تمارس الضغط المتواصل لمقارعة الخراب الذي أنهك البلاد بعد تحريرها من الديكتاتورية المقيتة عام 2003، فالآليات المتّبعة من قبل القوى المتنفذة، وتكريس المحاصصة والفساد آفات أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها نخرت التجربة السياسية مؤثرةً على كل مفاصل المجتمع. وقد كان للمد الشعبي العراقي قولته في السنوات احتجاجا وكتابةً وممارسةً، وتجلّت ذروة الاحتجاجات العراقية عام 2011، في عام شهد ثورات مهمة في المحيط العربي نجحت في تحقيق خلاص تونس ومصر من الحكم الديكتاتوري، واستلهاماً للشحنات الوطنية، اندلعت جذوة التظاهرات العراقية ضد الفساد والإهمال مطالبةً بالعدالة والحكم الرشيد في شباط، لتتكلل في اليوم الخامس والعشرين من الشهر نفسه بصبيحة جمعة غاضبة، علت فيها حناجر المحتجّين وهتافاتهم في سوح التحرير. وما زاد حرارة التظاهرات الموقف الحكومي المعادي الذي قمع واضطهد واعتقل واطلق الرصاص وطعن سمعة المتظاهرين. وباستمرار مع الاحتجاج كانت الجمع مداراً للتظاهرات بصورة مستمرة، وما يجدر ذكره أن القدح المعلّى كان للمؤسسات الثقافية المدنية، وللشخصيات الوطنية والثقافية، فقد كانت متصدرة لمشهد قيادة الجماهير.

لم تتوقف التظاهرات، فقد كانت تتأجج بين آونة واخرى، فالنهج السلطوي، لم يستطع أن يغيّر من اسلوبه في احتواء الشعب، وتقديم الخدمات الكافية والحلول الناجعة.

إن الإهمال الممنهج الذي اتبعته الحكومات المتعاقبة، وعدم جدّيّتها في التعامل مع الملفات الضرورية للشعب، فضلاً عن التكريس الواضح للتناحر الطائفي السياسي، كل ذلك أدى إلى نكسة كبيرة داخل شخصية المواطن العراقي، المواطن الذي بات يعاني من انسداد كوّة الأمل الضئيلة التي فُتحت بوجهه في بداية أشهر التحرير، وفي تصاعد للغليان الشعبي إزاء التهميش وضياع فرص التمثيل السياسي لشرائح مهمة من المجتمع بدأ العراق يتلمّس طريقه لحصول انتفاضة عارمة أجّلتها ظروف سقوط محافظات ومدن عدة بيد الإرهاب الداعشي، لكن نيران الثورة كانت في تصاعد متواصل منذ الأشهر الأولى لعام 2019، خصوصاً بعد تغوّل القوى السياسية، وتماديها في ركوب التجاهل طريقاً لها، وبعد انتخابات برلمانية عراقية شهدت مشاركة ما يقارب %30 من المصوّتين، وهي نسبة تنذر بالخطر، فدلالتها ان %70 ممن يمتلكون حق التصويت تنازلوا عنه لأسباب أهمها عدم ايمانهم بالتجربة السياسية التي باتت مكرورة ومنحدرة نحو درك مظلم.

في قراءة بسيطة لما سبق أحداث انتفاضة تشرين 2019، من الممكن القول أن البلد بات يشهد ما يلي:

  1. هيمنة سياسية لقوى الأحزاب المتنفذة على المستوى الحكومي.
  2. اختلال في موازين القوى الإقليمية المؤثرة في العراق، إذ باتت البوصلة تتجه شرقاً، ما أثار حفيظة الغرب الساخط.
  3. تزايد الوعي الشعبي مع نمو شريحة شبابية لم تعد تستند الى المنظومة الكلاسيكية في تلقي المعلومة.
  4. يقين متصاعد داخل العقل الموجّه للقوى السياسية المتنفذة بأنها في فرصتها الأخيرة أمام الشعب الغاضب.

كل ما تم ذكره في أعلاه مما شهده توقيت ما قبل اندلاع الانتفاضة من الممكن ردّه إلى أسباب عدة، لكن تظل أبرز الأسباب هي غياب العدالة الاجتماعية، في ظل كشف مستمر لأبرز انتهاكات الحريات، والتفاوت الطبقي بين المتنعمين والفقراء.

كان للسوشيال ميديا والبرامج الإعلامية دور كبير في شحذ الهمم نحو الاحتجاج، رافق كل ذلك سوء تصرف من قبل الحكومة في ادارة ملفات تسهم في التنفيس عن كبت الشارع، إذ كانت سياسة القمع هي المتبعة، وقد تجلّى ذلك في قمع الخريجين المعتصمين، وكسحهم بخراطيم المياه، وقد لاقت هذه الواقعة تضامنا واسعا برز الى واجهات المدونين وكتاب الرأي.

ثمة اتفاق غير مخطط له كان يتم تداوله بين أفراد الشعب العراقي، مفاده الخروج بتظاهرة يوم 1 تشرين الأول 2019، وما أكسب هذا الاتفاق بلاغة هو أنه لم يتم تبنيه من جهة معلومة أو طرف معين، انما كان حراكا شعبيا بامتياز، اذ تنادت فئات مختلفة للخروج والتعبير عن رأيها، ويبدو أن الأجهزة الأمنية للدولة العراقية، كانت قد استشعرت الخطر مسبقا، لكنها لم تكن على مقدرة لمواجهته، فآلياتها المعتادة في التسقيط وبث الرعب والخطف والاعتقال باتت غير مجدية، فجدواها السابقة ضد تظاهرات معروفة المصادر او الميول باتت منزوعة الفائدة ضد تظاهرات تنادي بها حسابات ومواقع وشخصيات على الفيس بوك تجد صداها العريض في المجتمع. يكمن نجاح الظاهرة وتناميها في جهل الراغب بقمعها، وفشله في التعامل معها، وقد زامن نشوب الاحتجاج وجود حكومة بليدة في قيادتها العليا، مستخذية أمام رغبات الأحزاب المتنفذة، متواطئة مع رغبات التوسّع والاستيلاء على أكبر حصة من العراق المنهوب، إذ ان ضعف شخصية رئيس الوزراء آنذاك كانت سببا رئيسا في التعجيل بانتهاء عمر حكومة مثّلت سياسة فاشلة في إدارة الأزمات.

في الأول من تشرين الأول 2019، استقبلت القوات الأمنية المتظاهرين بقمع مفرط تمثّل بمنعهم من الوصول إلى ساحة التحرير في بغداد منذ البداية، منتهجةً أسلوباً قاسيا في فض محاولات التعبير عن الرأي بالقوة، كما تم تفريق الجماعات الصغيرة التي نجحت في الوصول الى ساحة التحرير بالقوة، ليسقط الشهيد الأول في بغداد، وشهيد آخر في البصرة، لتقوم الحكومة بالتعتيم الإعلامي بعد ذلك، وقطع الانترنت، والتضييق على التواصل الاجتماعي، ووضع الحواجز والمعرقلات، وما فاق كل التصورات، ان جهات مسلحة قامت بقتل المتظاهرين بالنيران الحية المباشرة بالأسلحة والقناص، في أحداث مشهودة في شارع بور سعيد، وشارع فلسطين، والمثير للسخرية ان مكتب رئيس الوزراء كان يجهل ما يجري، أو يدّعي الجهل، والمرجّح أن ثمة هيمنة واستحواذا أمنيا كان يجري داخل كواليس قيادة الأمن العراقي، وسط أجواء مبهمة الى الآن، اذ لم تسفر نتائج التحقيقات عن شيء حاسم الى الآن.

إن محاولات التظاهر كانت متواصلة في الأيام العشر الأول من شعر تشرين الأول، ولا يمكن القول ان ثمة جهة منظمة كانت تقوم بالاحتجاج والتظاهر، فهي احتجاجات شعبية شبابية في مجملها، لفتية تقودهم الرغبة بالخلاص ولو انتحارا من الوضع المزري الذي يعانون منه.

إن محفزات النشاط الاحتجاجي لم تكن بنت الوعي الحزبي المنظم، ولا بنت النشاط المدني المكرّس، انما كانت بنت الرغبة الخالصة بالخلاص، وقد اقتصر دور الشخصيات المعروفة بنشاطها المدني الاحتجاجي السابق بالتغطية والمساندة والتصعيد، إلى أن تحققت المعادلة الجديدة التي قلبت المعادلة السابقة، فالجمهور الذي أفرزه الشارع المحتج، هو الذي يقود الجمهور الكلاسيكي المألوف، وهذا ما يعني أن التربية المدنية التي مارستها القوى في الاحتجاجات على مدى سنوات، أتت أكلها في تحفيز جيل صنع التغيير.

رافقت محاولات قمع الاحتجاج خطب اقليمية وتصريحات لسياسيين أزادت المحتجين اصرارا على المواجهة، خصوصا وان النمط السائد للهيمنة وقت التظاهرات كان نمطا يقترب من ايران، لذلك كانت المواقع الاجتماعية التي نشأت بسرعة وقوة - (وسرعان ما أفلت بعد انتهاء التظاهرات وذلك أمر يدعو إلى دراسة معمقة) - توجه أصابع الاتهام الى ايران، وتدعو لطردها، والتخلص من هيمنتها.

قد يكون عدد المتظاهرين في الأيام المحصورة بين الأول من تشرين إلى العاشر منه قليلا قياساً بالأعداد المعروفة للتظاهرات العراقية، لكنه عدد مؤثر وفاعل، ولو قُيّض للظروف أن تكون أكثر ملائمةً للخروج، لامتلأت الشوارع بالمتظاهرين، إن فاعلية المتظاهرين في هذه الأيام تعود إلى طاقة الجموح الكبيرة التي تحلّوا بها، يسندهم الرأي العام العراقي والعالمي، إذ بدأت الوكالات العالمية بالتحرّك، كما نشط شباب متقحّمون بدور فاعل دفع الانتفاضة من العتمة إلى الضوء، فشاب مثل صفاء السراي واصدقائه، كان يتجوّل على الدراجة ليصوّر مقاطع فيديو سرعان ما يذهب بها إلى القنوات الفضائية والوكالات لتنشر صانعةً تأثيرا مهولاً، خصوصا وان السوشيال ميديا يشهد تضييقاً، وقطعا شبه تام لشبكة الانترنت.

يروي أحد المتظاهرين عن أحداث الأيام الأولى بعد الأول من تشرين، أن رصاصاً قاتلا كان يستهدف المتظاهرين بضراوة، ليُحبسوا خلف بيوت أو جدران، وأن الرصاص كان يستهدف سيارات الإسعاف التي لم تستطع الوصول لنقل المصابين، بسبب التعرّض المباشر للإطلاق، فظهر دور (التكتك) بوصفها إسعافاً لإخلاء المصابين، حتى استحقّت لقب (إسعاف التحرير) فيما بعد.

بضغط داخلي وخارجي وتدخل أممي اضطرّت الحكومة لفتح الانترنت نسبياً أمام المستخدمين، وعندها يقرر المتظاهرون تأجيل احتجاجهم الأكبر الغاضب إلى الخامس والعشرين من تشرين الأول، لتكون المشاركة واسعةً ومشهودةً بعد انتهاء مراسم زيارة دينية التي صادفت آنذاك.

جهات كبيرة ومشاركون كثر لم يكونوا على بيّنة من المشاركة قبل الأول من تشرين أو الأيام الأول التي سبقته، لكن، بعد ما جرى من قمع، وبعد استشهاد عدد من الأبرياء، وسط معالجات غير مجدية، قررت معظم القوى الوطنية والمدنية والاتحادات والنقابات الخروج مع الشعب، وفي هذه الأيام بدأت المواقع الإعلامية التواصلية المساندة بالتطور واستقطاب أعداد أكبر من المشاركين، كما بدأت الأصوات تعلو، وسط صمت خطابي من قبل الحكومة، إذ جاءت أبرز محاولات التخفيف عن ضغط الشارع بائسةً ومثيرة للحزن والجدل والسخرية.

مرّت الليلة السابقة لليوم الخامس والعشرين من تشرين هادئةً ومن دون ضغط كبير، كما كان الوصول إلى ساحة التحرير صباح الخامس والعشرين سهلا وغير معقّد، إذ لا حظر للتجوال يومها، ومواكب المتظاهرين كانت تترى نحو الساحة، ومنذ ليلة الخامس والعشرين حاولت مجموعة من الشباب عبور جسر الجمهورية نحو المنطقة الخضراء، لتجابه بالردع من القوات الأمنية، وقوات مكافحة الشغب، وما إن جاء الصباح حتى نجح الشباب في الوصول إلى منتصف الجسر وسط ردع قاس من قبل قوات الشغب، التي أطلقت القنابل الصوتية والدخانية على المتظاهرين، كما استعملت الرصاص الحي ضد من عبروا الى الجهة الثانية من الجسر، ونجحت كذلك بتفريق المتجمعين جهة الكرخ/ العلاوي..

الأعداد تتزايد، والقمع يشتد، ثم وُضعت حواجز حديدية على جسر الجمهورية لمنع الزحف الجماهيري، كما ابتدأ استخدام القنابل الدخانية سلاحاً سيء الصيت ضد المتظاهرين. كانت القنابل الدخانية سببا رئيسا في استشهاد عدد لا يستهان به من المتظاهرين، فقد كانت سلاحا حقيرا ملأ القلوب حزنا..

ان متظاهري التحرير كانوا كالنبات الطبيعي، الذي لم تتدخل يد بشرية في زراعتهم، انما أسهمت الظروف في تكوين وعيهم، لذلك كان من الصعب السيطرة عليهم، وهذا ما أثار حفيظة الأمن العراقي.

صارت قوات الشغب تلقي القنابل الدخانية بقوة وقسوة لتفرّق المتجمعين قرب نصب الحرية، لكن الكر والفر ظل سيد الموقف، كانت القنابل تعلو لتضرب الحمام ليسكن محترقا على وجه جدارية جواد سليم الخالدة، وما هي إلا أيام حتى سكنت قنبلة قاتلة رأس الشهيد صفاء السراي ليخرج من ساحة التحرير بتشييع مهيب أثار اللهب في قلوب الجماعات كلها.

خيمة واحدة كانت في ساحة التحرير صباح الخامس والعشرين من تشرين الأول 2021، وما إن حلّ المساء وإذا بالخيم تتزايد وتتعالى أعمدتها، لتمتد من ساحة التحرير وفضاء الجدارية وحديقة الأمة ومحيطها إلى شارع السعدون وابي نؤاس والجرف الشاطئ، والشارع الجمهوري، حتى ساحة الطيران.

في مشهد لا يُنسى من ذكريات 25 شباط 2011، كانت رموز السلطة وقتها في حالة تأهب، والقمع مشتدٌّ بقسوته المعهودة، وليرى المتظاهرون رجالاً يؤشّرون وأسلحةً تظهر من أعلى المطعم التركي، المبنى الأعلى الكائن في مدخل جسر الجمهورية، والمطلّ باستراتيجية على ساحة التحرير، كان الأوامر تصدر من المبنى وترصد المتظاهرين، ومن أعلاه ابتدأت مأساة الاعتقالات والقمع، وفي مشهد لا يتكرر إلا قليلا، شاهد متظاهرو ساحة التحرير صباح الخامس والعشرين من تشرين 2019 رجالاً أعلى المطعم التركي، ليدبّ الرعب في قلب من شهد الصورة الأولى لعام 2011، لكن سرعان ما تحوّل الرعب إلى فرح، إذ علم المتظاهرون بأن اخوتهم المتظاهرين صعدوا المبنى وورفرف العلم العراقي من أعلى المبنى، ليعلن عنه باسم (جبل أحد) للثوار والمعتصمين والمنتفضين.

إن تظاهرات تشرين انتفاضة وطنية كبيرة عارمة شاركت فيها محافظات مهمة في الوطن، وحققت درساً بليغا للقوى السياسية المتتفذة، وبغض النظر عن الأسباب والمسببات والدوافع والمساندين، فإنها استطاعت أن تعيد ثقة المواطن العراقي بنفسه، وسيكون الوقوف في هذا الجزء من هذه المقالة إلى هذا الحد، على وعد أن يناقش الجزء المقبل ما جرى في الأيام اللاحقة، وكيف وصلت الانتفاضة ذروتها وصولاً إلى نهايتها أو أفولها أو استمرارها المفترض.

عرض مقالات: