اخر الاخبار

اتيحت الفرصة لاوكرانيا لتحقيق الاستقلال فقط بعد قيام ثورة اكتوبر الاشتراكية في عام 1917، والتي اعلنت حق تقرير المصير للشعوب. وتشكلت جمهورية شعبية انضمت الى الاتحاد السوفيتي بعد تشكيله واصبح لها مقعد في هيئة الامم المتحدة على غرار بيلاروسيا. ولكن اوكرانيا الغربية بقيت ضمن بولندا التي احتلها الالمان عقب انهيار الامبراطورية النمساورية – المجرية في عام 1918. وقد رحب القوميون الاوكرانيون بالقوات الالمانية انذاك واسسوا دولة “ اوكرانسكا ديرجافا” تحت سيطرة الالمان مع شئ من الحكم الذاتي. واعقب ذلك قيام الثورة الاشتراكية في المانيا واندلاع ثورة في غرب اوكرانيا بقيادة بتلورا. لكن في عام 1919 قامت بولندا بعد استعادة استقلالها بضم اراضي اوكرانيا الغر بية اليها بدعم من رومانيا وتشيكوسلوفاكيا، كما هاجمت الجيش الاحمر في اوكرانيا الشرقية . وفي عام 1921 ضمت اوكرانيا الغربية الى بولندا بموجب معاهدة ريجا في عام 1920.

لقد عمدت السلطة السوفيتية في البداية الى حماية الثقافة القومية للآوكرانيين، وسمحت بافتتاح المدارس لهم حيث الدراسة باللغة الاوكرانية. لكن في فترة القمع الستاليني بدأت من جديد حملة “ روسنة “ شرق اوكرانيا وحاربت النزعة القومية بتهمة “ الشوفينية”. ورد القوميون الاوكرانيون على ذلك بحملة ارهابية واسعة من اغتيالات وتفجيرات. وحدث الشئ ذاته في القسم الغربي حيث حظرت السلطات البولندية تعليم اللغة الاوكرانية في المدارس وقام الاوكرانيون بحملة ارهابية ضد البولنديين . وقد ادانت عصبة الامم آنذاك افعال الحكومة البولندية حيال الاوكرانيين وطالبت بمنح الاوكرانيين حقوقهم القومية. ولكن بلا فائدة.

في فترة الحرب العالمية الثانية استولت القوات الالمانية على جميع اوكرانيا وانضم القوميون في القسم الغربي الى القوات الالمانية في محاربة الجيش الاحمر وقمع الاهالي الموالين للسلطة السوفيتية. لكن السلطت الهتلرية رفضت طلب الاوكرانيين بتأسيس دولة خاصة لهم وزجت بزعيمهم ستيبان باندير في السجن. اما الاوكرانيون في شرق وجنوب اوكرانيا فقد انضموا الى حركة المقاومة ضد الجيش الالماني النازي. وبعد هزيمة النازيين في الحرب العالمية الثانية اصبحت اوكرانيا كلها بعد تحريرها في عام 1944 ضمن الاتحاد السوفيتي . وقد اصاب جمهورية اوكرانيا الاشتراكية السوفيتية الخراب في الحرب وفقدت 5 ملايين شخص من ابنائها. ومارست خلال الفترة حتى سقوط الاتحاد السوفيتي تأثيرا كبيرا في سياسة الدولة السوفيتية، وكان الكثير من قادتها مثل خروشوف وبودغورني وبريجنيف على رأس الدولة السوفيتية خلال فترة طويلة، وعلماء كبار مثل سرغيه موروليوف عالم الفضاء السوفييتي.

والآن بعد ان اصبحت اوكرانيا دولة مستقلة تماما في عام 1991 واجهت منذ اعلان الاستقلال المشاكل الداخلية بنتيجة تصادم اتجاهات اهالي الاقاليم الشرقية والغربية. فالاوكرانيون في الغرب يميلون الى الاتحاد الاوروبي ويريدون الانضمام اليه والى حلف الناتو بأسرع وقت . انهم لقوا ويلقون التشجيع القوي من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي . وتدفقت من هناك مليارات الدولارات لدعم “الثورة البرتقالية” على الرئيس كوتشما ثاني الرؤساء الاوكرانيين الذي حاول الموازنة بين التيارين الشرقي والغربي، وتم اقصاؤه بطريقة غير ديمقراطية وسط تهليل الغرب. واليوم تم اقصاء الرئيس الرابع فكتور يانوكوفيتش بصورة غير ديمقراطية بالاستيلاء على مؤسسات الدولة وثكنات الحيش بالقوة وحتى باستخدام السلاح في ساحة “ ميدان” في وسط العاصمة كييف مع سقوط مئات الضحايا ، في ظل ترحيب الدول الغربية بما يحدث والتي نسيت شعارات الديمقراطية وحقوق الانسان وهلمجرا. وجرى كل شئ بحضور وزراء خارجية بولندا والمانيا وفرنسا في كييف. علما ان الرئيس الثالث فكتور يوشينكو لقي في حينه المشاكل من جانب الاوكرانيين في الشرق والغرب على حد سواء لكونه لم ياخذ بنظر الاعتبار مصالح اصحاب المصانع الضخمة ورجال الاعمال في دونيتسك وزابوروجيه وخاركوف. بينما وجد السكان الروس في جنوب وشرق اوكرانيا وعددهم يتجاوز 10 ملايين شخص انفسهم مظلومين حيث لم تمنح اللغة الروسية وضع لغة رسمية وتم اغلاق المدارس الروسية والجمعيات الثقافية والاجتماعية الروسية.

ولا يخفى الدور الذي تلعبه العوامل الجيوسياسية . فالغرب يريد ابعاد اوكرانيا عن روسيا نهائيا، كما حاول ذلك من قبل مع بيلاروسيا لكنه فشل . لاسيما وان اوكرانيا دولة كبيرة المساحة وعدد سكانها حوالي 45 مليون نسمة و ان حوالي 10 مليون نسمة هم من الروس . ويشكل الروس 97% من سكان القرم و93% من سكان مقاطعة دونيتسك و85 % من سكان اوديسا وهلمجرا. وقد هددت ادارة جمهورية القرم ذات الحكم الذاتي بالانفصال عن اوكرانيا باعتبارها منطقة روسية اهداها خروشوف الاوكراني الى جمهوريته في عام 1954. واذا ما انضمت اوكرانيا الى الاتحاد الاوروبي فستكون جمهورية القرم الخاسرة قبل غيرها. علما بانه يرابط هناك حتى الآن اسطول البحر الاسود الروسي الذي يستأجر القاعدة البحرية السوفيتية السابقة في سيفاستوبول . ولا يمكن لروسيا أن تتجاهل اقامة قواعد حربية امريكية بالقرب منها في رومانيا وبولندا وبلغاريا، فمثل هذه القواعد لا تقام لغرض التسلية. ولهذا فانها تتخذ موقف الحذر وتعمل على تقوية قدراتها العسكرية من جانب، والحيلولة دون اقتراب حلف الناتو من حدودها عن طريق اوكرانيا في هذه المرة.

ان الدول الغربية تحاول اقصاء روسيا عن سواحل البحر الاسود، بحيث لن يتبقى لها في حالة ضم اوكرانيا الى نفوذ الغرب سوء شريط صغير لا يتجاوز عدة كيلومترات عند ميناء نوفوروسييسك الروسي حيث تشيد حاليا القاعدة البحرية الجديدة للاسطول بعد نقله من القرم. وبهذا يصبح البحر الاسود بحيرة تابعة لحلف الناتو حيث يوجد من الجنوب تركيا ومن الغرب رومانيا وبلغاريا، وتأتي الى موانئها السفن الحربية لحلف الناتو باستمرار.

إنه من الصعب التكهن بما ستكون عليه الاحداث القادمة. فالصراع الحالي في اوكرانيا، مهما كان المنتصر، لن يقود الى حل القضية الاوكرانية المتشابكة جدا. فقد ينتصر اليوم هذا الطرف (غرب اوكرانيا) وبعد عدة اعوام سينتفض الطرف الآخر(شرق اوكرانيا) مطالبا بحقوقه. ويمكن القول ان اوكرانيا التي تواجه اليوم خطر الانقسام، فهي تتألف من شعبين لهما خلفية تأريخية واساليب تفكير وثقافة متباينة. وربما ان الحل الوحيد ان يعترف كل طرف بحقوق الآخر وكذلك بحقوق الروس من مواطني البلاد، وان توقف الدول الاخرى تدخلها في الشأن الاوكراني ولاسيما بولندا الحالمة في بسط نفوذها هناك مجددا وكذلك جمهوريات البلطيق والمانيا ودول الناتو عموما. لكن هذا يتطلب طبعا توفر سلطة قوية في البلاد.

لقد وقفت اوكرانيا قبل ايام على حافة الحرب الاهلية. ووجد الرئيس الضعيف الارادة نفسه بلا دعم فترك الساحة من اجل ان يقوم القوميون بانقلابهم ضد سلطته بشكل غير دستوري واضطر لمغادرة القصر الجمهوري الى مدينته خاركوف حيث يوجد انصاره . وقرر البرلمان تعيين رئيس آخر مؤقتا ينتمي الى المعارضة مكانه والاعلان عن اجراء الانتخابات الرئاسية في أيار القادم . والطريف ان العشرات من النواب اعضاء حزب الاقاليم قرروا الانضمام الى المعارضة مما سهل على المعارضة الراديكالية تمرير جميع القوانين التي تريدها، ومنها اقصاء الرئيس عن منصبه والافراج عن المليونيرة يوليا تيوشينكو من السجن ( والتي يلقبها الناس في شوارع كييف باللصة رقم 1، والتي اعلنت فورا انها سترشح نفسها للرئاسة القادمة. اما الاتحاد الاوروبي فقد اعلن انه يعد العدة لضم اوكرانيا الى اتفاقية الانتساب اليه.

أما الجيش الاوكراني الضعيف جدا، فقد اعلن انه لا يتدخل في الصراع السياسي الداخلي وحتى سمح للمتطرفين بالاستيلاء على سلاحه ، وكذلك فعلت اجهزة الامن. اما الاغلبية الصامتة في المجتمع فهي تنتظر – كما فعل بعض النواب –اعلان من ينتصر لكي تنضم اليه. انها لاتهتم بمن سيأتي الى السلطة لانها تعرف مقدما ان الاوضاع المعيشية لن تتحسن، ويكفي ان تصون حياتها من القتل وبيوتها من الدمار اذا لم تنشب الحرب الاهلية. انها مثل الاغلبية الصامتة في جميع البلدان. لكنها طبعا تدفع في كافة الاحوال ثمن سكوتها. ان الازمة الاوكرانية هي مأساة شعبين في الواقع ولو انهما يسميان الشعب الاوكراني.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

* نص مختصر لمقالة الكاتب

عرض مقالات: