اخر الاخبار

منذ بداية الازمة الاخيرة بين أوكرانيا وروسيا، كان هناك خياران مطروحان على الطاولة: خيار الحل الدبلوماسي والخيار الثاني الذهاب الى الحرب. رفضت الدول الغربية المطالب الروسية بضرورة العودة الى اتفاقية مينسك الثانية، ووقف تمدد الناتو. بقي الخيار الآخر وهو العسكري، في هذا الباب هددت أوروبا والادارة الاميركية بعقوبات اقتصادية رادعة. لكنهم أكدوا على أنهم لن يشتركوا في القتال الى جانب الحكومة الاوكرانية في حال نشوب الحرب. لم يكن الرئيس الروسي يتمنى أكثر من ذلك لبدء المعركة الحاسمة.

بوتين قال قبل سنوات: من فرح لانهيار الاتحاد السوفياتي لا يوجد له قلب، ومن يحلم بإعادة بنائه ليس لديه عقل. نظام الحكم القائم في روسيا الآن ليس نظام الاتحاد السوفياتي السابق، أعلم أن هناك كثير من المثقفين في العالم العربي يتمنون ذلك، لكن هؤلاء ليس لديهم عقل.

بوتين في خطاب الحرب الذي نقل عبر محطات التلفزة، تحدث كثيراً عن أن النظام السوفياتي هو المسؤول عما آلت إليه أمور روسيا عقب الانهيار العام ١٩٩١ ، ولم يأت بكلمة واحدة عن النظام الذي تسبب ومن ثم تلى فترة الانهيار، بدأً من يلتسين الذي باع الصناعات السوفياتية بستين مليار دولار فقط في حين كانت قيمتها الحقيقية وفق تقديرات اقتصادية تزيد عن تريليون دولار. أصبحت روسيا في عهد يلتسين مثل ورقة شجر تتطايرها رياح خريفية، وتحولت البلاد في يوم وليلة من دولة عظمى إلى دولة تتسول على أبواب الغرب حتى لا تنهار نهائياً.

تناسى الرئيس الروسي وضع روسيا الاقتصادي والسياسي قبيل ثورة أكتوبر في العام ١٩١٧م، وكيف تحول البلد الذي كان بلداً مهزوماً ومدمراً في أعقاب الحرب العالمية الأولى، الى بلد صناعي جبار، بعد الثورة ومن ثم قوة دولية عظمى.

هذا التناسي من جانب بوتين ليس مصادفة، كون النظام الروسي الحالي هو امتداد للنظام نفسه الذي قوض الاتحاد السوفياتي.

بعد أن تولى بوتين الرئاسة خلفاً ليلتسين، بناء على صفقة معروفة، يضمن فيها للأخير عدم محاسبته على فضائح الفساد والرشى في عهده، حيث بلغت ثروة يلتسين خلال سنوات رئاسته عشرة مليارات دولار

في الحقيقة استطاع بوتين في عهده، النهوض بالبلاد من شبه الانهيار الكامل، الى إعادة بناء مقدرات البلاد بشكل ملحوظ. لكن هذا الطموح كان يهدف إلى بناء دولة قوية تمكنه من دخول نادي الدول الغربية، ولم يخفي الرجل طموحه هذا أبداً، فقد طلب الانضمام الى حلف الناتو في العام ٢٠٠٨م. لكن الغرب أدار له ظهر المجن وظلوا يتعاملوا مع روسيا كدولة هامشية، وليس كدولة مقررة على الحلبة الدولية. لكن بوتين عمل بهدوء ومن تحت الرادار كما يقال بخطة مرسومة، ظهر ذلك جلياً في حسم الامور في مقاطعتي اوسيتيا وابخازيا في جورجيا، ثم في ضم القرم حيث الميناء الأكثر أهمية لروسيا. لكن العلامة الأكثر وضوحًا كانت في التدخل المباشر في الازمة السورية، متحدياً بذلك الولايات المتحدة وأوروبا وبعض دول المنطقة.

ليس ذلك فحسب، بل امتد النفوذ الروسي الى القارة السوداء، من خلال السياسة الناعمة حيناً، أو من خلال منظمة الفاغنر العسكرية، من ليبيا شمالاً الى وسط إفريقيا.

من المهم أن ندرك أن هذه السياسة الروسية، لا تهدف الى تقويض النظام العالمي البتة، بل لأخذ النصيب الذي تستحقه من النفوذ كقوة عظمى. فقد أدرك بوتين بعد سنوات ورغم محاولاته (السلمية) المتكررة من الانضمام الى نادي الأقوياء أن ذلك لم يعد بأي نتيجة تذكر، بل على العكس من ذلك، تمدد حلف الناتو حتى وصل الى دول كانت جزأً في الماضي القريب من الاتحاد السوفياتي. حتى هذه الدول التي ظنت أنها بانضمامها الى حلف الناتو سوف تصبح جزأً من هذا (العالم الديمقراطي المتحضر) وجدت نفسها وقد انتقلت من تبعية الاتحاد السوفياتي سابقاً، إلى تبعية حلف الناتو دون الحصول على امتيازات تذكر.

رئيس أوكرانيا الغض من ناحيته لم يقرأ الواقع الجيوسياسي بشكل صحيح، كان يظن أن تودده للغرب والكلام المعسول الذي يسمعه هناك قد يوفر الحماية له. إلا أنه وجد نفسه في نهاية المطاف وحيداً في مواجهة الدب الروسي، ولكن بعد فوات الأوان. ورغم محاولاته الاخيرة للعق الجراح والتوسل للتفاوض، إلا أن المطالب الروسية أصبحت أكثر تشدداً بعد امتصاص رد أوروبا والادارة الاميركية على العملية العسكرية، حيث ظهر العجز الغربي الواضح عن فعل أي شئ يذكر. حتى العقوبات المفروضة كانت حذرة جداً، وقد تكون مرتدة على من اتخذها، أوروبا مثلاً تستهلك نصف الغاز المنتج عالمياً، ومن الصعب استبدال إمدادات الغاز الروسي، وإن حصل هذا فهو يحتاج الى فترة قد تمتد لعشر سنوات.

الخيار المتاح الوحيد الآن أمام هذه الدول، هو دفع أوكرانيا للقبول بالشروط الروسية، التي باتت تزداد صعوبة مع كل دقيقة تمر، فبعد أن كانت الشروط تتضمن عدم تمدد الناتو ومنح مقاطعة الدونباس الحكم الذاتي، وصلت في الساعات الاخيرة الى مطالبة الجيش في أوكرانيا بإزاحة الحكومة والتفاوض مع روسيا، والمطالبة بنزع سلاح الجيش الأوكراني ومحاربة القوميين. من يعلم في الغد إلى أين ستصل المطالب الروسية. الامر المؤكد أن روسيا لن تزج نفسها في احتلال مباشر، خصوصاً إذا ما توفرت البدائل، وعلى ما يبدو أن الطريق باتت مفتوحة أمام بدائل معقولة.

في الشرق الادنى هناك أكثر من طرف مستفيد مما يجري في أوكرانيا، يقف على رأسهم إيران وإسرائيل.

في الملف الإيراني، سوف تستعجل الولايات المتحدة توقيع الاتفاق النووي معها، لضمان تعويض النقص في سلع الطاقة، الناتج عن العقوبات المفروضة على روسيا. أما إسرائيل فسوف تستغل حالة عدم الاستقرار في أوكرانيا لدفع المزيد من اليهود للهجرة إليها، تغذيةً لمشروعها الاستيطاني. قد يظن البعض أن إسرائيل سوف توضع على المحك لاختيار الطرف الذي تناصره، لكن في ميزان العلاقات ما بين الدول القوية لا مكان لهذا، لن تأبه روسيا لعلاقات المودة بين تل أبيب وكييف، هناك مصالح مشتركة سوف يحافظ عليها الطرفان، ولن تأسف إسرائيل على رحيل مواطنها زيلينسكي ، بل ربما قد تمنحه اللجوء السياسي بشروط معينة.

وباستثناء بعض الدولارات الاضافية في جيوب حكام الخليج، نتيجة ارتفاع اسعار النفط الى حين، ليس هناك أي فائدة تذكر للبلدان الضعيفة سوى استخلاص الدروس والعبر. وأول هذه العبر أنه لا يوجد في الواقع قانون دولي ولكن قانون للأقوياء وآخر للضعفاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* كاتب وصحفي فلسطيني

عرض مقالات: