اخر الاخبار

هانس كريستيان اندرسن من اشهر قصاصي الاطفال، واشهر قصصه بيننا هي “ثياب الملك الجميلة”، قد لا تكفي كل قراء الجريدة الاشارة الى الاسم.. ثم، ما هو الضرر من تكرار القصة، بتصرف يخدم جماليتها.

اذاع “مجموعة” من الناس، عشية الاحتفالات بذكرى تتويج الملك، انهم قادرون على صنع بدلة لجلالته عجيبة غريبة، لا يراها الا الاذكياء.. ويبدو ان جهاز اعلام “المجموعة” كان على درجة عالية من الكفاءة، بحيث وصل النبأ ابواب البلاط خلال 24 ساعة، وانتشر في طول المملكة وعرضها خلال 48 ساعة.

بعث الملك وزيره الاول ليرى ذلك النسيج العجيب، الذي تصنع منه تلك البدلة الغريبة، التي لا يراها الا الاذكياء. ووقف الوزير يرقب بذهول، المقصات والابر والمقاسات وهي تتحرك بأيدي الخياطين لتقطع وتفصل وتخيط القماش الوهمي العجيب.. وقال في نفسه:

- اني لا أرى شيئاً. لقد صدقت مخاوفي.. انا لست ذكياً.. وهذا شيء ثبت الآن بالبرهان.. لا مناص من اخفاء امري.

وعاد الى مليكه.

- هاه.. كيف وجدت القماش؟

وراح الوزير يتغزل بلون القماش.. وحسن الفصال..

من ثم تقاطر رجال البلاط على محل الخياطة، ليتثبتوا من وجود الذكاء في رؤوسهم.. وصار الواحد منهم يعود، فيضيف تفصيلات لم تلحظها عين سابقة، في ألوان القماش، و”قنوجة” وبطانة السترة!

ثم جاء دور الملك. ذهب ليرى، فلم ير شيئاً، ولكن أيصح ان يعلن الملك غباءه؟!

صار هو الآخر يمتدح البدلة..

وجاءت مجموعة الخياطين، صبيحة ذكرى التتويج..

خلعوا ملابس الملك القديمة، وراحوا يلبسونه البدلة الموهومة:

- ارفع يدك يا صاحب الجلالة.. اخفضها قليلاً، ارفعها، ادخلها هنا.

 ثم يمررون اصابعهم من ترقوته، حتى اسفل سرته، يزررون “الدگم”!

- والآن تستطيع ان تخرج الى الناس يا صاحب الجلالة!

وهكذا خرج الملك، في عربة مكشوفة، (ربي كما خلقتني).. ويحدق الناس في وجوه بعضهم.. الكثير امتدحوا بدلة الملك.. وأقلهم اكتفى بالصمت، تحت وطأة ارهاب الغباء.

غير ان طفلاً، ساذجاً، لم تتبلور عنده مفاهيم الذكاء والغباء بعد، هتف عالياً:

- هي! الملك إمصلخ!!

وكان حالنا (نحن متوسطي التعليم) مع بعض الشعر (الحديث)، وما زال، حال الناس مع بدلة الملك.. التي لا يراها الاغبياء..

وسوف ارتضي لنفسي مهمة ذلك الطفل الساذج واصرخ – وانا اقرأ قصيدة – ان الملك (إمصلخ!!) ثم اعود الى القصيدة فأقرأها من فوق الى اسفل، ومن اسفل الى اعلى.. ويبقى الملك إمصلخ!

وأقرأ قصائد الفجيعة..

الفجيعة التي مرت.. والفجيعة الآتية.. التي يحتفظ لها الشاعر ببقايا حزن..

ولكن لحسن حظي، لم اشاركه فجيعته.. ولا اتفجع.. وتبقى معالم الدنيا مضيئة امامي.

وأقرأ واحدة من قصائد الاستلاب والاغتراب (الاليفة!) فأشعر، اكثر من ذي قبل، اني لصيق بالناس.. لا استطيع العيش دونهم..

قصيدة الضجر – حد الغثيان – من المدنية والمدينة، توضح لي أكثر فأكثر كم نحن بعيدون، بعد، عن المدينة.. واننا نعيش في الريف – وان سكنا بغداد – وان تلك القصيدة لا تصلح الا على لسان (مستلب) باريس!

وبوسعي ان اعلن الكثير – كما فعل الطفل الساذج – وليتقوّلوا..

ولكن ثياب الملك موهومة!

أبو گاطع

ــــــــــــــــــــــــــــــ

* من اعمدة ابو گاطع المنشورة في “طريق الشعب” عام 1974