اخر الاخبار

في الوقت الذي يسعى فيه عتاة الأوليغارشية الروسية الحاكمة اليوم، إلى تشويه موقف البلاشفة من حق الشعوب في تقرير مصيرها، بنعته تفريطاً بحقوق الوطن الروسي لصالح أهداف حزبية كما صرح كبيرهم بعيد غزوه لأوكرانيا، ووصف عتاة الأمبرياليين في أمريكا والقارة العجوز وأتباعهم، سياسة موسكو الحالية، وكأنها إمتداد لمواقف البلاشفة ومحاولة لإعادة الحياة إلى الإتحاد السوفيتي، فإن كشف الحقيقة التاريخية بما حملته من نجاحات وخطايا، يعّد ضرورة موضوعية ليس للدفاع عن إنسانية اليسار والشيوعيين فحسب وإنما للبحث عن الوجهة السليمة في خضم هذا الصراع.

تاريخ مشترك

يعود الترابط بين الشعبين الروسي والأوكراني إلى الدولة السلافية الأولى، «كييفان روس»، التي تأسست في القرن التاسع الميلادي وتحول أميرها فلاديمير الأول، من الوثنية إلى المسيحية الأرثوذكسية علم 988، وسجلت تداخلاً ثقافياً واسعاً شمل إضافة إلى الديانة، اللغة والعادات الاجتماعية والمأكولات والأساطير وغيرها. وقد خضعت أوكرانيا منذ أواخر القرن الثامن عشر إلى الحكم القيصري الروسي، الذي أراد صهر الأوكرانيين في المجتمع الروسي، فمنع لغتهم وعرّضهم لقمع شديد.

وقد فتحت ثورة أكتوبر العظمى 1917، الدرب رحباً لحرية الأوكرانيين، حيث تأسس المجلس الوطني (الرادا) وأعلنت دولة أوكرانيا الحديثة، التي ما لبثت أن شهدت قيام ثورة شعبية، عمالية وفلاحية، ضد سلطة ملاك الأرض والرأسماليين. الا أن البلاد قد دخلت في أتون حرب أهلية مع أتباع وقوات تلك السلطة وحلفائها من ألمان ونمساويين. وتحقق أول نصر للثوار عام 1919، قبل أن تعود القوى الرجعية بقيادة الجنرال أنتوني دينيكين، لتهيمن من جديد على البلاد، ويعاود الثوار خوض صراع ضدها أثمر عن تحرير أوكرانيا وإقامة جمهورية إشتراكية مستقلة عام 1920(1).

البلاشفة وأوكرانيا المستقلة

يتعرض موقف البلاشفة من القضية الأوكرانية، غداة خلاصها من نير الحكم القيصري، إلى تشويه متعمد اليوم. ولعل قراءة موضوعية لمجرى الحدث التاريخي يفيد في تبديد هذا التشويه. ولا يوجد ما هو أفضل من العودة إلى نصائح وتعليمات قائد أكتوبر، فلاديمير لينين، لتأمين هذه القراءة.

ففي كانون الأول 1919، وبعد عامين على إنتصار ثورة أكتوبر الإشتراكية العظمى، وغداة الإنتصار الأول على قوى الردة، بعث فلاديمير لينين برسالة إلى الشعب الأوكراني (2)، مثلت الموقف الماركسي الأممي من حرية الشعوب (بما في ذلك أوكرانيا) وسعادتها وحقها في تقرير المصير.

فبعد تقديم التهنئة للأوكرانيين على ماحققوه من إنتصارات على قوات دينكين الذي قاد حرباً من أجل إعادة السلطة إلى ملاك الأراضي والرأسماليين، دعا لينين الأوكرانيين إلى مواصلة الكفاح حتى تطهير كامل تراب وطنهم من فلول الرجعية، بإعتبار ذلك السبيل الوحيد لحماية الشعب وكادحيه، من جلاد شديد القسوة، كما أثبتت فترة سيطرته على البلاد وقبل هزيمته، والتي جاءت بعد أن أدرك عمال أوكرانيا وفلاحوها بأن الإلغاء التام لنظام الملكية العقارية، بات ضرورة لا غنى عنها لتحررهم وخلاصهم من الإضطهاد.

وبعد أن أكد لينين على إعتراف حكومة روسيا الاتحادية الاشتراكية السوفيتية، والحزب الشيوعي الروسي بإستقلال أوكرانيا، شدّد على أن أبرز المهام التي تواجه عمال وفلاحي أوكرانيا، مهمة إنجاز المسألة الوطنية، عبر حسم الخلاف بين إتجاهين، يدعو الأول منهما لإقامة جمهورية اشتراكية سوفيتية منفصلة ومستقلة في أوكرانيا، ترتبط بصيغة إتحادية مع الجمهورية السوفيتية الاشتراكية الروسية، ويحدد مؤتمر السوفيت فيها طبيعة هذا الإتحاد وإشتراطاته، فيما يدعو الثاني إلى الاندماج مع روسيا لتشكيل جمهورية سوفيتية واحدة.

الوحدة الأممية

ولم ينس قائد الثورة الإشتراكية أن ينبه البروليتاريا إلى أن قرارهم الحر ينبغي أن يُّتخذ على أساس مصالحهم في التحرر التام من عبودية رأس المال، وإن لذلك علاقة جدلية مع وحدة الطبقة العاملة العالمية، التي يسعى التحالف العالمي لقوى ملاك الأرض والرأسماليين إلى تحطيمها، مشدداً على أن وحدتنا على الصعيد الأممي تشترطها وحدة الأعداء الطبقيين، المستغِلين.

ويستمر لينين في تأكيده على أن البلاشفة يريدون إتحاداً طوعياً للأمم، دون أي إكراه، إتحاد يُبنى على الثقة والإحترام المتبادل وتأمين المصلحة المشتركة، إتحاد يُبنى تدريجياً وبكثير من الصبر والحذر، وذلك لإزالة رواسب قرون من الإستغلال والإضطهاد الطبقي، الذي مارسه الإقطاعيون والرأسماليون الروس ضد الشعوب التابعة للأمبراطورية القيصرية.

الرأسماليون هم السبب

وأشار لينين إلى أن الرأسمالية، هي من صنّفت الشعوب والأمم إلى مسيطرة ونهابة وأخرى تابعة ومسحوقة، فيما زادت الحرب العالمية الأولى من حدة الإنقسام بين الشعوب وأضعفت الثقة فيما بينها وأحلت الكثير من السخط والحقد محل التعاون، وهو ما ظهر جلياً لدى الأوكرانيين ضد روسيا القيصرية.

ونصح لينين بالحزم ضد مساعي تفتيت وحدة العمال والكادحين والصبر والحذر أثناء تعزيز التعاون والأخوة الطبقية، على أن تكون البروليتاريا الظافرة سخية في التعاون لبناء الثقة بين الشعوب، كي تمحو أثار الإستغلال الطبقي والإضطهاد القومي، لأنها الأكثر قدرة على ذلك، والأكثر حاجة لوحدة أممية تجابه فيها الرأسمال المتوحش في هجومه على الشغيلة ودولتهم الوليدة.

وأشار لينين إلى نجاح الرأسماليين في تحطيم الثقة بين الشعب الروسي وبين شعوب المستعمرات الروسية السابقة، مثل أوكرانيا وبولونيا ولاتفيا وأستونيا وليتوانيا وفنلندا، مستغلين جرائم القيصرية ضد هذه الشعوب من جهة وملقين بحجب كثيفة على الجرائم التي إرتكبتها ذات القيصرية ضد عمال وفلاحي روسيا نفسها، وذلك في مسعى خبيث لتصوير روسيا ككتلة مستغِلة واحدة. وأعرب لينين في رسالته عن ثقته بأن هذا الخلاف الذي تمت زراعته، سيزول وستبنى، وإن ببطء شديد، الثقة بين الشعب الروسي وأشقائه في الدول المجاورة، على طريق الوحدة البروليتارية العالمية.

التنوع في إطار الوحدة

وحين كان لينين يوجه رسالته إلى الشعب الأوكراني، كان هناك تحالف اشتراكي يحكم في كييف، وتتمثل فيه المجموعة البلشفية التي كانت أغلبيتها مؤيدة للوحدة مع روسيا والمجموعة الإشتراكية الثورية التي كانت تريد دولة مستقلة. وقد انقسمت المجموعة الثانية إلى يسار يؤيد دخول أوكرانيا المستقلة إلى اتحاد متكافيء مع روسيا السوفيتية ومجموعة يمينية ترفض ذلك.

وقد نصح لينين في رسالته بضرورة عدم إعتبار هذا الإختلاف أساساً للإنقسام، أو عقبة أمام نضال البروليتاريا الأوكرانية التي تريد الخلاص من نير رأس المال، داعياً إلى الحوار الرفاقي وعلى أساس الثقة والتعاون المشترك.

وحذر من وقوع بعض البلاشفة، جراء قرون من الإنتماء لأمة مستعمرة ومضطهِدة لغيرها، في خطيئة البحث عن روسيا عظيمة وغمط حقوق الشعوب في تقرير مصيرها و»إقناعها» في الإندماج مع روسيا، لأن في ذلك زعزعة لثقة الأوكرانيين في دعوة البلاشفة لوحدة الشغيلة وبداية تخريب ـ وإن غير متعمد ـ لوحدة البروليتاريا المقاتلة ضد راس المال. كما حذر وبشدة من النفاق الذي تمارسه البرجوازية الصغيرة والملاك في المستعمرات السابقة، ممن يتلفعون براية إشتراكية مؤيدة للبروليتاريا، وذلك لكسب تأييدها في تحقيق الإستقلال الناجز ثم الإنقلاب على شغيلة بلدها والعالم وتبني النظام الرأسمالي والتمسك بالإستغلال الطبقي والإضطهاد القومي.

كيف تبنى الثقة

وللخروج من هذه المشكلة المعقدة، رأى لينين أن أفضل طريقة هي في الوقوف إلى جانب السلطة البروليتارية في نضالها ضد الإستغلال في الريف والمدينة، وتحقيق الإنتصار النهائي لهذه السلطة، على أساس تحالف عسكري واقتصادي وثيق بين العمال في روسيا والعمال في أوكرانيا، حيث بدون ذلك ستتمكن جنازير المدرعات الرأسمالية من سحق البلدين معاً.

ونعت لينين من يتبنى فكرة التفوق القومي لروسيا، مهما كان نوعها، بخيانة الشيوعية والإضرار بنضال البروليتاريا وخدمة أعدائها، داعياً الشيوعيين في روسيا إلى تقديم التنازلات عندما تكون هناك خلافات مع الشيوعيين والإشتراكيين الثوريين الأوكرانيين، مع تأكيده على بقاء الشيوعيين في أي أمة كانت ثابتين في المسائل الأساسية والجوهرية والتي هي نفسها لجميع الأمم، مسائل الكفاح البروليتاري وعدم التسامح مع الإستغلال البرجوازي.

هذا وقد تمكنت قوات البلاشفة والإشتراكيين الثوريين من تحقيق النصر النهائي في عام 1920، وإتحد البلاشفة مع الجناح اليساري للأشتراكيين الثوريين، والذي مثل أكثرية هذا الحزب، في الحزب الشيوعي الأوكراني، وأعلنت جمهورية أوكرانيا الإشتراكية عن إستقلالها، ثم أسست هذه الجمهورية المستقلة، وبأرادة برلمانها (مجلس السوفيت الأعلى) مع باقي الجمهوريات السوفيتية، الإتحاد السوفيتي عام 1922.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) نيللي عادل: موقع عربي بوست،

أذار 2022.

(2) أنتونيو مستاكو: القضية القومية في التاريخ السوفيتي، جامعة غوتنبرغ.

عرض مقالات: