اخر الاخبار

في 17 آب 1956، تم حظر نشاط «الحزب الشيوعي في المانيا الألماني» (KPD) في جمهورية المانيا الاتحادية (المانيا الغربية). ومثل الحظر استثناء في الديمقراطية البرجوازية. وكان الحظر يعني أيضًا إصدار نسخة جديدة من أيديولوجية «الاستبداد»، هذه المرة بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الألماني.

تتمتع الأحزاب السياسية بأهمية قصوى في القانون الأساسي الألماني (الدستور)، باعتبارها شكلا أساسيا من أشكال تنظيم تمثيل الشرعية الديمقراطية، التي يجب أن تحقق الإرادة الديمقراطية وعملية تشكيل الرأي العام، اذ ينبغي أن يكون الناس قادرين على التصرف. لذلك يتطلب قرار حظر أحزاب معينة جهدًا قانونيًا وسياسيًا خاصًا، وبالتالي فهو استثناء: في عام 1952 حظر نشاط حزب الرايخ الاشتراكي الفاشي، وفي عام 1956 حظر نشاط الحزب الشيوعي في ألمانيا (KPD). ولم يحظر بعد ذلك نشاط أي حزب سياسي آخر في البلاد. ولم يثر الحظر المفروض على حزب الرايخ الاشتراكي الفاشي جدلا، لأن الحزب وضع نفسه في تقاليد النازية، وكان برنامجه يحاكي برنامج الحزب القومي الاشتراكي بزعامة هتلر، فإن الحظر المفروض على الحزب الشيوعي في المانيا KPD لا يزال مثيرًا للجدل حتى يومنا هذا.

الحظر بقرار دستوري

في ذلك الوقت، سارت إجراءات الحظر على النحو التالي: بعد جلسات استمرت خمس سنوات، وجدت المحكمة الدستورية في المانيا الغربية أن نشاط الحزب الشيوعي غير دستوري، وأصدرت قرارها بتاريخ 17 آب 1956؛ وبعد صدور القرار مباشرة وبسرعة لافته صودرت مطبوعات الحزب ونشرياته، ومطابعه وأصوله المالية في يوم إعلان الحكم، وتم تفتيش مكاتب الحزب وإغلاقها، واعتقال العديد من مسؤولي الحزب وقادته.

ولم يجر تبرير قرار الحظر بكون الحزب يمثل خطرا على النظام السياسي في المانيا الغربية أو حتى بالإشارة إلى الإرث الستاليني. وبدلاً من ذلك، قدمت المحكمة تفسيرًا تفصيليًا لنصوص ماركسية كلاسيكية، افترضت أنها تتعارض بشكل أساسي مع النظام الأساسي للديمقراطية الحرة. وهنا، اعتبرت المحكمة وصف المجتمع الرأسمالي بالمجتمع الطبقي، متناقضا مع المبادئ الإنسانية، لأن هذا التوصيف يتناقض، حسب فهمها، مع المفهوم البرجوازي للفرد الحر.

وبالمناسبة، فإن هذا التبرير والجدل بشأنه لم يفقد من أهميته شيئا حتى اليوم. ويمكن العثور عليه، على سبيل المثال، في تبرير وزارة الداخلية مراقبتها حاليا لصحيفة «Junge Welt“ (العالم الشاب) اليسارية اليومية، من قبل مكتب حماية الدستور (جهاز المخابرات الألماني). لذلك يجب أن يُفهم قرار المحكمة الدستورية على أساس طبيعته الأيدولوجية، بكونه قرارا أساسيا يعتبر الاشتراكية غير متوافقة في حد ذاتها مع النظام الأساسي الحر والديمقراطي المثبت في الدستور الالماني. كما يبدو الحظر المفروض على الحزب الشيوعي في المانيا بمثابة هجوم على الديموقراطية الاجتماعية وجميع المنظمات الأخرى للحركة العمالية واليسار ككل. ومن المفيد الإشارة الى انه على الصعيد الشكلي، لازال الحزب الديمقراطي الاجتماعي الحاكم حاليا في المانيا عضوا في الاشتراكية الدولية، وينشد أعضاؤه في مؤتمراته نشيد الأممية.

تأسيس «النظام الديمقراطي الحر»

ينبع مفهوم النظام الأساسي الديمقراطي الحر، المستخدم في هذا النقاش، من فكرة «الديمقراطية الحصينة»، أي القادرة على حماية نفسها، وبمثابة دليل للقانون الأساسي (الدستور)، والتي تدعي أنها تعلمت من أخطاء وغفلات جمهورية فايمار (119 – 1933) والنظام النازي، الذي أنهي استمرارها. والسردية المصاحبة لهذه القراءة تقول: ان نقطة ضعف النظام الديمقراطي لجمهورية فايمار ، كمنت بالميول اليسارية واليمينية المتطرفة التي رافقته، وسببت انهياره. وكانت هذه الميول السبب الرئيسي وراء وصول الاشتراكية القومية (النازية) إلى السلطة عبر الآليات الديمقراطية، وأن نظام فايمار لم يكن قادرًا على الدفاع عن نفسه بشكل فعال ضد هذه القوى المعادية للديمقراطية. ومن أجل التصدي لمثل هذه الهجمات في الوقت المناسب، فإن المطلوب الآن هو ديمقراطية محصنة جيدًا تلتزم بالقيم والمبادئ الأخلاقية غير القابلة للتأويل، وفي نفس الوقت، تدافع عنها.

كل شيء في هذه السردية خاطئ - من تفسيرها التاريخي إلى مضامينها السياسية. لأن تلك الأوساط المحافظة للبرجوازية، هي بالتحديد التي التزمت بهذه السردية، وشاركت الفاشيين عملية تخريب الديمقراطية، وبالتالي مهدت الطريق لصعود النازية. الشكوى من النظام السياسي «الليبرالي المفرط» لجمهورية فايمار لم تكمن في انتقاد عيوبه الحقيقية، لكنها كانت موجهة منذ البداية ضد الديمقراطية غير المرغوب فيها، وبشكل خاص ضد الاشتراكية والليبرالية.

بعد سنوات قليلة فقط من نهاية النظام النازي، تم حظر الحزب الشيوعي في المانيا مرة أخرى، استنادا الى معادلة ايديولوجية متطرفة تبدو مريرة هذه المرة، في ضوء استمرار العديد من منتسبي الأجهزة النازية في إدارة الولايات والحكومة الاتحادية في سنواتها المبكرة، وخصوصا في جهاز حماية الدستور (المخابرات). لقد لخص الصحفي هيريبيرت برانتل في صحيفة «زود دويتشه تسايتونج» (جريدة يومية محافظة واسعة الانتشار) ذات مرة الموقف التاريخي بطريقة جدلية: « في معسكرات الاعتقال النازية تم ملاحقة أعضاء الحزب الشيوعي من قبل النازيين السابقين، الذين أصبحوا ضباطا في جهاز حماية الدستور لاحقا».

ومع حظر الحزب الشيوعي في المانيا، بلغت دعاية معاداة الشيوعية، التي اكتسبت في سياق الحرب الباردة تأثيرا قويا، ذروتها. لقد أدت معاداة الشيوعية وظيفتها في تعزيز هوية النظام السياسي الاجتماعي الجديد في ألمانيا الغربية ا، وفي استقراره وإضفاء الشرعية عليه.  لقد رأى المستشار الأول لجمهورية المانيا الغربية كونراد أديناور أن ألمانيا «تواجه خيارًا بين العبودية والحرية»؛ ورأى وزير خارجيته هاينريش فون برينتانو، ضرورة ربط الصراع الدفاعي الغربي ضد «جماهير الشرق» التي من شأنها أن تجلب معها «الدمار والهاوية «. في تناول تحديث التاريخ الألماني في السنوات المبكرة للنظام السياسي في المانيا الغربية تصبح معاداة الشيوعية، كأعراض جانبية مزعومة، لا مفر منها لعملية بناء ديمقراطي ناجح.

ان الصراع من أجل الهيمنة السياسية، لم يكن يرتبط بقرارات أخلاقية لتحقيق قيم معينة، أو حتى للتصالح مع الماضي. كان الأمر يتعلق حصرا بطبيعة النظام الاجتماعي للمستقبل، وبالسلطة ومصالح رأس المال، وبفرصة إعادة تنظيم محتملة للتكوين السياسي والاجتماعي في مرحلة تاريخية بدت فيها أشياء كثيرة ممكنة. وتم التعبير عن ذلك بقمع المنافسين. بدأت عمليات القمع في وقت مبكر من عام 1950، حيث أصدر المستشار الألماني الغربي اديناور مرسوما منع بموجبه اعضاء الحزب الشيوعي وعصبة مناهضة الفاشية، وأعضاء تسع منظمات يسارية أخرى. من العمل في قطاع الخدمات العامة. وشهدت سنوات 1951 - 1968، وفي إطار المحاكمات السياسية، فتح 120 ألف قضية صدرت في قرابة سبعة آلاف قضية منها احكاما ضد شيوعيين ويساريين.

الحزب الشيوعي الألماني DKP خلفا للحزب المحظور

مع استمرا حظر الحزب الشيوعي في المانيا KPD حتى يومنا هذا، تمت الموافقة في عام 1968 على تأسيس الحزب الشيوعي الالماني DKP، وهي تسمية مختلفة، كخلف للحزب المحظور. وأثيرت تساؤلات حول كيفية التعامل مع هذا الحزب الشيوعي الجديد ليس في المعسكر اليميني أو المحافظ فقط، بل كانت هناك مخاوف من تسلل الشيوعيين لدى الحزب الديمقراطي الاجتماعي الحاكم حينها. لقد كان الديمقراطيون الاجتماعيين غير مهيئين للتعامل مع حزب منافس في المصانع والنقابات والأوساط الثقافية، وبالتالي فان فكرة حظر الحزب الجديد، في حال تحوله الى منافس قوي كانت حاضرة.

بعد فترة وجيزة من عدم اليقين، سرعان ما أصبح واضحا أن الحزب الجديد، لا يرتقي الى أداء سلفه، خصوصا في السنوات التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية، ولا يشكل أي تهديد سياسي داخلي، لا للحزب الاجتماعي الديمقراطي ولا للدولة، ولا لرأس المال. ورغم الجهود المبذولة، الا ان النجاحات المتحققة كانت محدودة. وعندما تم اصدار المرسوم المتطرف في عام 1972، والقاضي بحرمان الشيوعيين ومجموعات ماركسية أخرى من الوظائف في التعليم والبريد وقطاعات خدمة عامة أخرى، أصبح من الصعب على الحزب الجديد العودة الى ماضي الشيوعيين المؤثر. ورغم إيقاف العمل بالمرسوم عمليا حاليا، الا ان مئات من الشيوعيين واليساريين من ضحايا العزل الوظيفي لم يرد لهم الاعتبار، ولم يلغ هذا المرسوم بشكل رسمي لحد الآن.

يحظى الحظر المفروض على الحزب الشيوعي في المانيا KPD بأهمية كبيرة للثقافة السياسية في البلاد وآفاق تطورها؛ تم تضمين الدستور الألماني مقولة «مناهضة الشمولية»، وعمليا تم توظيف الخطاب الإيديولوجي المتطرف في وقت مبكر. وتاريخيا عزز ذلك فكرة اليمين في المساواة بين الشيوعية والفاشية، مما زاد من التقليل من خطر النازية، وترديد أسطوانة الالمان الضحايا.

في هذه الاثناء، تمكن جهاز المخابرات من ترسيخ نفسه كسلطة معادية للشيوعية يمكن بواسطتها للنازيين «السابقين» مطاردة أعدائهم الشيوعيين القدامى باسم الديمقراطية وسيادة القانون، بالإضافة الى المواقع الوظيفية التي يتيحها الجهاز. منذ حظر نشاط الحزب الشيوعي في المانيا، كان على الحزب الشيوعي الألماني حديث التأسيس، والأحزاب اليسارية والجمعيات والمنظمات بشكل عام السير على «صراط مستقيم»، لكي تحافظ على نهجها الجذري، وفي الوقت نفسه تثبت ولاءها للدستور.

العدو يقف يسارا

لقد عانى أداء الحزب الشيوعي في المانيا من التأثيرات السلبية للتقاليد الستالينية، وضراوة المواجهة بعد الحرب العالمية الثانية، التي كانت الأرض الألمانية ساحتها المباشرة، وتسخير كل الإمكانات لتسعير العداء ا للشيوعية، وكذلك من تقسيم مناطق النفوذ بين المعسكر الغربي والمعسكر الاشتراكي، ومع ذلك يمثل حظر نشاط الحزب خسارة لمنصة تقليدية ورمزية للغاية للحركة العمالية وقوة مهمة بالنسبة للأوساط الاجتماعية التي مثلها الحزب، وإمكانية للتعبئة والتنظيم في جمهورية المانيا الاتحادية الفتية (المانيا الغربية)، وكان للحزب ان يمثل معارضة برلمانية ، في مواجهة تسرب النازيين لجهاز الدولة الجديدة، وإعادة هيكلية النظام الرأسمالي فيها. لقد بين قرار حظر نشاط الحزب الشيوعي في المانيا، أنه على الرغم من كل التحول الديمقراطي والانفصال المزعوم عن النازية، استمرت موضوعة واحدة على الأقل، بالنسبة للدولة البرجوازية: العدو الحقيقي يقف يسارا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عن مقالة بعنوان «الحمر بيننا» بقلم أنطوان شمت نشرت في 20 اب 2022 في جريدة «نويوز دويجلاند» الألمانية