اخر الاخبار

بسبب الضجر لا غير، أضطر أحيانا لمتابعة “الذباب الإلكتروني” الذي يعلو طنينه في الفضائيات دفاعاً عن نظام المحاصصة والفساد المأزوم، فتأخذني مشاعر ملتبسة بين سخرية من الأكاذيب التي يطلقها بعض هؤلاء على شباب الإنتفاضة، وبين حزن على ما آلت اليه أحوال البلاد، التي طالما حلم العراقيون لها بمستقبل ديمقراطي يضمن العدالة الاجتماعية، طيلة كفاحهم لإسقاط الطاغية صدام ونظامه الدكتاتوري. لكن تلك المشاعر المختلفة تجمعت في غضب وإستنكار جارف، حين سمعت أحدهم يوماً، وهو يطلق تساؤلاً صلفاً عن طبيعة التشرينيين وهويتهم ومطاليبهم. فلهذا ولغيره، أقول:

التشرينيون هم شباب هذا العراق، الذي مزُقت هويته الوطنية الجامعة، بما سببوه له من إستقطاب طائفي وقومي، والذي فقد سيادته أو يكاد، مذ تهاونوا ضد عدم إحترام الأخرين لإستقلاله، وضد الإعتداءات العلنية والمستترة على أراضيه، والذي نُهبت ثرواته جهاراً نهاراً وأوقع ثلث مواطنيه في براثن الفقر والجوع، والذي خلت مدارسه من الرحلات والكتب والحمامات ووسائل التدفئة والتبريد، والذي تفتقد مستشفياته للأدوية والمستلزمات الطبية والأطباء والممرضين. إنهم شبيبة العراق الذي يفترشون الأرصفة عاطلين عن العمل رغم تحصيلهم الدراسي، إنهم شبيبة العراق الذين يفتقدون لكل سبل الترفيه والإستثمار النافع للوقت، إنهم شبيبة العراق الذين لايأمنون على أرواحهم وعوائلهم ومستقبلهم في ظل السلاح المنفلت وغياب القانون وإنتشار المافيات والميليشات، إنهم شبيبة العراق الذين سُحقت فرصهم في مستقبل مشرق بأحذية المحاصصة والفساد والمحسوبية وتغول البيروقراطيين والشقاة. إنهم أبناء العراق الذي تحول الى دولة فاشلة بسبب التوافق، ليصبح مغنماً يتقاسمه الأعدقاء من قوى وعوائل وزعماء، إنهم عمال العراق الذين فقدوا قدرتهم على الإنتاج في المصانع التي تحولت الى خردة وبيعت الى المرابيين ودول الجوار، إنهم فلاحو العراق الذين جفت أنهارهم وخربت الملوحة أراضيهم وبقي عملهم رهن التخلف في عالم تطورت فيه تقنية الزراعة وصار الأمن الغذائي للسكان صنوا لسيادة الأوطان. إنهم نساء العراق اللواتي يرزخن تحت ظل اللامساواة في العمل والفرص والدخل، واللواتي يتعرضن لعنف أسري ومجتمعي وتمارس بحقهن أبشع أساليب الإضطهاد الجندري المؤسس على أكثر العادات المتخلفة والمستدعاة من ماض سحيق. إنهم أصحاب الأعمال وصناعيو العراق الذين حوصروا بالأتاوات والرشاوي وفتحت أبواب الإستيراد لخنق منتجاتهم في منافسة غير عادلة مع بضائع دول الجوار. إنهم طلبة العراق الذين يُجبرون على دفع الملايين من قوت عوائلهم للجامعات الأهلية والدروس الخصوصية في عملية مخالفة لما نصّ عليه الدستور من مجانية التعليم. إنهم أبناء هذا العراق كله، فهل عرفت الأن من هم التشرينييون!

أما ماذا يريدون، فهم يريدون أن لا يكون هناك شيء أغلى من العراق، يريدون بناء دولة عصرية ديمقراطية مسالمة، لا مكان فيها للفساد وللسلاح المنفلت، دولة تتكافؤ فيها الفرص وتتحقق فيها عدالة اجتماعية وتكافلاً بين الناس، دولة تحترم الدين كركن أساسي في الحياة وتحترم الخيارات الدينية والفكرية للمواطنيين، دولة المواطنة والمؤسسات والحريّات وحقوق الأقليات، دولة تحمي الطفل والمرأة، دولة تقدم الخدمات التعليمية والصحية وغيرها للمواطنين كحق وليس كمنّة.

هؤلاء هم التشرينييون، وهذه هي بعض مطاليبهم، وسبق لمثيل لك أن سأل ذات السؤال يوماً (من أولاء الرعاع)، فأجابه الجواهري الكبير برائعته (أخي جعفر):

 أتــعــلـمُ أنَّ رقـــابَ الــطـُغـاة      

  أثــقــلـهــا الـغُـنْـمُ والـمـأثــمُ

وأنَّ بــطــونَ الـعُــتـاةِ الــتــي      

  مِنَ السُحتِ تهضمُ ما تهضمُ

سـتـنـهـدُّ إن فـارَ هــذا الــدمُ        

وصــوّتَ هـــذا الفـمُ الأعجمُ 

عرض مقالات: