اخر الاخبار

أنا أحد الشهود الذين تابعوا أحداث يوم الثامن من شباط الاسود عام ١٩٦٣ والذي بدأت أحداثه عندما مر الملازم الاول الطيار منذر الونداوي والملازم فهد السعدون بطائرتيهما فوق بغداد وقصفا وزارة الدفاع إيذانا ببدء يوم الانقلاب على ثورة ١٤ تموز ومنجزاتها التي لا زالت آثارها شاخصة أمام الناس كمدينة الطب ومشروع قناة الجيش ووقع انجازهما على الناس  في ذلك الوقت بداية الستينات، فانطلقت سيرا على الاقدام من دارنا في محلة الدوريين باتجاه شارع النصر مرورا بمحلة الذهب الشعبية والصناعية، حيث تجمع الناس حول شاب يشرح لهم أنها مؤامرة يقودها بعثيون بمساعدة جمال عبد الناصر، وأنهم بدأوا المؤامرة بقتل قائد القوة الجوية صباح هذا اليوم جلال الأوقاتي،  وقد تأكدت حينها أن كلام ذلك الشاب كان صحيحا وانا أشاهد رشاشات بور سعيد المصرية تخرج تباعا من جامع حنان الواقع يمين ساحة الشهداء مقابل هيئة التقاعد الحالية، وأن حملة تلك الرشاشات بدأوا يتجمعون أمام بوابتي حلويات جواد الشكرجي في شارع النصر وهم ينحدرون من محلات بغداد القديمة في سوق حمادة والتكارتة ونهايات الجعيفر ومناطق سوق علاوي الشيخ صندل، فأخذت طريقي راجعا عبر منطقة الشواكة إلى منطقة الكريمات لمعرفتي الجيدة بميول أهل هذه المنطقة اليساري، حيث تجمع الشباب فيها للخروج في مظاهرة تأييدا للثورة ولزعيمها عبد الكريم قاسم، بعد أن أخذت بيانات الانقلابيين تذاع من الإذاعة الرسمية في الصالحية، وبعد أن سرنا باتجاه وزارة الدفاع تصدى للمظاهرة نواة الحرس القومي عند تقاطع شارع الشواكة مع شارع النصر، فحدثت مشادات واشتباكات قليلة ثم تفرقت التظاهرة، وعدت أدراجي إلى ساحة جمال عبد الناصر فشاهدت تواجدا عسكريا كثيفا أمام الإذاعة وعلمت أن للانقلابيين وجدوا فيها قبل الانقلاب، وحوالي الساعة الحادية عشر توجهت عائدا إلى شارع النصر ولاحظت تفرق حملة الرشاشات وعندها بدأنا نسمع تبادل رشقات الرصاص بين البعثيين والقوميين من جهة والشيوعيين من جهة أخرى، وكانت أصوات الرصاص وبعد عبورنا جسر الشهداء تنبعث من شارع الكفاح، وبعدها علم المارة معي أن القتال بدأ عند ساحة السباع . هذا وقد بدأت مقاتلات هوكر هنتر تقصف وزارة الدفاع وسمعت من المارة أن الزعيم وصل إلى وزارة الدفاع وقد أحاطت به الجماهير طالبة السلاح فرد أن القضية ستنتهي قريبا، والزعيم لا يريد إراقة الدماء، وفي حوالي الساعة الحادية عشر والنصف قبل الظهر عبرت أربع دبابات جسر الشهداء متوجهة إلى وزارة الدفاع فأحاطت بها الجماهير وهي تهتف ( ماكو زعيم إلا كريم) وصعدت هذه الجماهير على الدبابات الأربع وفتحت غطاء قمرة الدبابة واخرجت طاقمها من الضباط والمراتب وتعاملت معهم بشدة وتم حرق دبابتين منها، وبعد فترة عبرت أربع دبابات أخرى جسر الشهداء وهي تحمل صور الزعيم، وعلمت فيما بعد أنها كانت بقيادة العقيد الركن عبد الكريم مصطفى نصرت آمر كتيبة الدبابات الرابعة الذي اختار رفع صور الزعيم بعد أن تعرض للقتل عند مدخل جسر الشهداء،  وهذا ما أكده طالب حسين شبيب وزير خارجية نظام انقلاب شباط في تصريح له، من أن عبد الكريم مصطفى نصرت خوفا وتمويها أخذ يهتف وهو يرفع صورة الزعيم (ماكو زعيم إلا كريم)  وهكذا وصل دون اعتراض بالقرب من وزارة الدفاع، وحول الفوهات لتضرب باتجاه الوزارة وقد فتح النار بالمقابل على المتظاهرين، كان الاشتباك على أشده بين قوات الزعيم المتحصنة في وزارة الدفاع وبين قوات الانقلابيين المتمركزة في جانب الكرخ قرب مقام خضر الياس وفي ساحة الميدان في الرصافة، في الأثناء توجهت وبعض المتظاهرين خوفا من الرصاص متسللين عبر شارع الجمهورية إلى باب المعظم، وعندها جاءت سيرا على الاقدام جماهير مدينة الثورة وهي تحمل العصي وأنابيب الحديد وهي تهتف (يا زعيم انطينة اسلاح باسم العامل والفلاح ) ووقفت متكئا من تعبي على سياج نادي المهداوي مقابل مقهى الآداب، وكانت الجماهير محتشدة في هذا المكان أمام وزارة الدفاع، وسمعنا أن الزعيم قد حث الجماهير على التهدئة وان المؤامرة ستنتهي قريبا. مرت الساعات بسرعة فائقة وسيارات الإسعاف تروح وتعود في كل مكان من بغداد وحل المغرب والجو يزداد برودة وخوفا من قادم الأيام، عدت مع بعض معارفي في المحلة عند حلول الليل عبر جسر الشهداء وكانت الطائرات تقصف من السماء  ودبابة أخرى تقصف وزارة الدفاع من جانب الكرخ،  وعند وصولنا شارع الشيخ معروف كانت أصوات تبادل الرصاص لا زالت مستمرة في منطقة الرحمانية وفحامة الكرخ والعطيفية حسب ما نقله بعض من العائدين أن الكاظمية تشهد أشد قتال في بغداد، خاصة بعد أن صدر بيان رقم ٣ الخاص بتشكيل الحرس القومي وهو تنظيم مسلح يضم البعثيين والقوميين وأبناء التجار والاقطاعيين، وكان قد تم تأسيسه لمساندة القوات المتضامنة مع البعثيين خوفا من بقية قطعات الجيش الأخرى الموالية لحكومة الثورة، وكانت ساعات الليل تمر تباعا وبسرعة وأصوات الرصاص تتعالى من كل صوب، وظلت المقاومة الشعبية للانقلاب مستمرة إلى اليوم التالي حيث أعلن رشيد مصلح الحاكم العسكري العام بيانه المشؤوم رقم ١٣ الذي دعا فيه إلى إبادة الشيوعيين، واستمرت المقاومة حتى بعد إعلان القبض على الزعيم حيث ازدادت ضراوة القتال، وبدأت تهدأ مساء ذلك اليوم ٩ شباط في محلتنا، عندما تم عرض صورة الزعيم بعد إعدامه حيث خيم الوجوم والحزن وبكى العراقيون للمرة الأولى والأخيرة على زعيم سياسي ألا وهو الزعيم عبد الكريم قاسم الذي مثل قمة الزعامة النزيهة المتعففة عن المال العام والانحياز لأوامر الاجنبي، وكان قد لقن البريطانيين دروسا في الوطنية ودرسا خاصا في الحفاظ على حقوق شعبه بالقانون رقم  ٨٠ لسنة ١٩٦١، الذي خاطب فيه الزعيم أعضاء مجلس الوزراء قائلا ، وقعوا قانون إعدامكم ، وفعلا تم إعدامه ليكون شهيدا وطنيا في بلد غني مثل العراق حل فيه انقلاب شباط بإرادة أمريكية ، حيث لم تعود للعراق منذ ذلك الانقلاب عافيته الى يومنا هذا