اخر الاخبار

لم تكن مجرد صدفة أن يتوحد الاقطاعيون والأغوات والرجعيون العتاة وبقايا نظام الملكية ورموزه، والقتلة والمأجورون، ووكلاء شركات الاحتكار النفطية، ويعقدوا حلفهم تحت الشعار المخزي (يا أعداء الشيوعية اتحدوا)، لاغتيال ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة، والانتقام من الجماهير الكادحة صانعة ثورة الشعب العراقي، وفي مقدمتها الطبقة العاملة والحركة الديمقراطية وطليعتها الحزب الشيوعي العراقي.

وكان طبيعياً ان يستثمر كل أولئك الحاقدين والموتورين وأسيادهم ثغرات الحكم البرجوازي الوطني بالامتداد نحو اجهزته والتفريخ في رحم مؤسساته العسكرية والمدنية الحساسة والاجهاز عليه، من ثم، بانقلاب 8 شباط 1963 الفاشي.

لا نريد ان نبحث في (هوية) رشيد مصلح، صاحب البيان رقم (13) القاضي بإبادة الشيوعيين. يكفي ان (رفاقه) قادة انقلاب 17 تموز 1968، اضطروا لفضحه عميلاً امريكياً من على شاشة تلفزيون بغداد. والاعتراف الذي قدمه أحد اقطاب انقلابهم المشؤوم بأنهم (جاؤوا بقطار امريكي) فقد الكثير من إثارته، لأن ثمة ما هو أخطر من هذا الاعتراف، يتجسد في سلوك ومناهج ومواقف أولئك الورثة المخلصين لشباط الأسود الذين يحكمون عراقنا بقوة النار والحديد، ويسومون الشعب ألوان العذابات والكوارث.

اما ذاكرة الشعب فلا يمكن ان تنسى قطعان (الحرس القومي) وهي تجوب شوارع العراق لتعلن عن إلقاء القبض على السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي الرفيق حسين احمد الرضي (سلام عادل) والعشرات من قادة وكوادر حزبنا، ليذهبوا شهداء، بين مئات الشهداء الذين تركت دماؤهم علامات فارقة على سحن وأيدي وبزات جنرالات الانقلاب، تحاصرهم كالكوابيس.

وكانت (أبيدوهم حيث وجدتموهم) العبارة الموجزة المسعورة التي تم بموجبها انجاز (الانتصار)، بيد أن الحقيقة تكشف أن الانقلابيين استطاعوا تسويق الجريمة شعبياً عندما نصبوا خيام الاعتقال والتعذيب والقتل في المنعطفات والساحات العامة والملاعب الرياضية بعد ان ضاقت السجون ودوائر الحكومة ومخافر الشرطة بخيرة المناضلين من أنبل بنات وأبناء شعبنا، وفي طليعتهم الشيوعيون العراقيون.

في تلك الأيام كانت مأثرة الشيوعيين الملهمة.. كانت مقاومة الجماهير الشعبية الغاضبة.. وكان صمود الشيوعيين، واستشهادهم، بشرف وبطولة، تحت التعذيب لكي يمجد حزب سلام عادل ورفاقه ذلك النداء الذي دوى في سماء العراق، ليتردد صداه في سماوات أخرى.. نداء فهد “الشيوعية اقوى من الموت وأعلى من اعواد المشانق”.. ومرة أخرى خاب أمل الأعداء الواهمين بتحطيم حزب الشيوعيين العراقيين، وأعاد التاريخ الذي لا يرحم، كلمات فهد الساطعة، بهتاف سلام عادل ورفاقه الشهداء، والمناضلين الشيوعيين.

ففي مؤتمره الوطني الثاني قيّم حزبنا انقلاب الردة واستخلص الدروس والاستنتاجات الضرورية في انتكاسة ثورة 14 تموز التي توجها ذلك الانقلاب.

وفي إطار هذا التقييم جاء في برنامج المؤتمر: “ان حكم الردة تمتع منذ اللحظات الأولى بعطف ومساندة القوى الامبريالية والرجعية في العالم كافة، وقد قبر لائحة قانون شركة النفط الوطنية في المهد، وألغى قانون الأحوال الشخصية، وجمد قانون رقم (80)، كما جمد الاتفاقية الاقتصادية العراقية – السوفيتية، وفتح الباب على مصراعيه أمام الرساميل الأجنبية الاحتكارية، ودشن عهده بالهجوم على الحركة الديمقراطية، مركزاً هجومه على الحزب الشيوعي العراقي. وأعلن البيان رقم (13) الذي يبيح قتل الشيوعيين وإبادتهم، فأطلق العنان للحرس القومي الفاشي بإباحة القتل والسلب والنهب وهتك الاعراض. وفتحت معسكرات الاعتقال التي ضمت عشرات الألوف من الوطنيين، وجرت ممارسة سياسة التعذيب والتصفية الجسدية. واستشهد المئات من الكوادر الشيوعية والعسكريين الثوريين ومئات الأعضاء، وقُتل السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي سلام عادل والعديد من أعضاء اللحنة المركزية والمكتب السياسي تحت التعذيب، وتم سلب المكتسبات العمالية وجرى شن الغارات البوليسية (الزركات) على الفلاحين، وبعد أشهر من الهدنة مع قادة الثورة الكردية، والتي استثمرت لتصفية آخر بقايا الديمقراطية، شهدت البلاد أفظع حرب تدميرية ضد الشعب الكردي في العراق، وفي مثل هذه الظروف نهض حزبنا الشيوعي باندفاع إلى المساهمة الفعلية في الثورة الكردية المسلحة؛ حيث خاض الأنصار الشيوعيون معارك بطولية حققوا فيها أروع الانتصارات، كما شهدت البلاد أعنف صراع ضد قوى التحرر على المسرح العربي”.

تلك هي ثمرة انقلاب 8 شباط الفاشي، الذي أعاق تطور الثورة في بلادنا وأرجع مسيرتها إلى الوراء سنوات عديدة.

بيد ان المقاومة الجماهيرية الواسعة التي اندلعت منذ اللحظات الأولى تحت قيادة حزبنا الشيوعي، واستمرار هذه المقاومة، الذي تجسد على نحو بطولين في انتفاضة معسكر الرشيد في 3 تموز 1963، وحملة التضامن العالمي مع ضحايا الإرهاب، وتصاعد مقاومة الشعب الكردي البطولية، وتدهور الوضع السياسي والاقتصادي. ان كل هذا زاد، كما أكد برنامج المؤتمر الوطني الثاني لحزبنا، من عزلة الحكم وحطّم الحلف بين الرجعيين ومدعي القومية، ما أدى إلى اشتداد التناقض الداخلي بين أطراف الحكم واجنحته، وسقوط نظام شباط الفاشي، بعد تسعة أشهر من قيامه، مشيعاً بجرائمه وآثامه، وبلعنات الشعب والتاريخ.

وأكد حزبنا الشيوعي العراقي، الذي كان الضحية الأولى للانقلاب، الدروس والاستنتاجات الأساسية المستخلصة من ظروف تطور الثورة في العراق التي برهنت، كما اكدت وثائق حزبنا، ان تلك القوى السياسية والاجتماعية التي وضعت نفسها في البدء موضع التحدي إزاء الطبقة العاملة الثورية والجماهير الكادحة التي يقودها الحزب الشيوعي، وحاولت جر جماهير مختلفة إلى جانبها بتسعير الحقد ضد الشيوعية والحركة الديمقراطية، وبتسعير الشوفينية ضد القومية الكردية والأقليات القومية والطوائف المضطهدة، ساقها منطق التاريخ الذي لا مرد له الا أحضان أعداء الشعب والحرية والديمقراطية، واعداء الحرية والوحدة والاشتراكية، وإلى التحالف مع الاستعمار واعوانه، وإلى تنفيذ اغراضهم ومخططاتهم.

وإذ برهنت تجربة 14 تموز والانتكاسة والخفاقات على ان قيادات البرجوازية عاجزة عن قيادة الثورة حتى نهايتها، فقد علمت بعض الأوساط والفئات من البرجوازية الصغيرة انه ليس هناك طريق آخر في العراق لمسيرتها في الثورة الوطنية الديمقراطية من دون التحالف مع الطبقة العاملة وحزبنا الشيوعي. كما برهنت على الدرس البالغ الأهمية من “ان أعظم الانتصارات تحققها جماهير الشعب عندما تكون الأحزاب والقوى الوطنية متحدة ومتراصة. وان خطر الانتكاسات والهزائم تمنى بها الحركة حين تتمزق الجبهة الوطنية ويشتد الصراع بين أطرافها”.

واليوم يرفع مجرم الحرب صدام حسين راية 8 شباط ويستلهم تراثها الفاشي ليس فقط من خلال رفع راية مكافحة الشيوعية، وانما مكافحة كل القوى الخيرة في المجتمع العراقي تحت الواجهة المفتوحة، بعد ان حاول، بطرقه التضليلية، ان يعيد الاعتبار لنفسه من خلال الزعم بأنه تجاوز تلك الراية وتلك الواجهة.

لقد اكدت مسيرة السنوات الماضية، الاستنتاجات المهمة التي استخلصها حزبنا الشيوعي العراقي بشأن مسيرة تطور الثورة الوطنية الديمقراطية في بلادنا، فها نحن نشهد خندقين يحتدم بينهما الصراع: خندق صدام حسين ومنظمته ورايته معاداة الشيوعية والديمقراطية ومكافحة كل القوى الوطنية، وخندق المعارضة الديمقراطية والقومية التقدمية والدينية الوطنية التي تكافح ضد هذا النظام، مستهدفة اسقاطه وإقامة حكومة ديمقراطية ائتلافية، تنهي الحرب على أساس سلم ديمقراطي عادل، وتحقق الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي الحقيقي لكردستان. وإذا كان ثمة ما ينبغي تأكيده من قبل خندق المعارضة الوطنية فهو ان عليها ان تكرس وتتمثل خلاصة هذه التجربة، وتعزز من وحدتها، وتنخرط على نحو جاد وفاعل لتحقيق الهدف الأساسي لشعبنا.

لقد تجاوز التاريخ أوهام قوى ردة شباط، فذلك الحكم الفاشي المعادي للشعب كان، في الممارسة العملية، اول من تملص من (التزاماته) إزاء الحركة القومية، بل ووجه ضربات قاسية لها، وهاجم الزعيم عبد الناصر ودخل في صراع مع الناصرية ومع فصائل أخرى من حركة التحرر الوطني العربية، وعزل العراق وابعده عن ساحة النضال العربي التحرري.

وليس من قبيل المصادفة ان نرى استمرار سياسة عزل العراق هذه الآن على ايدي ورثة انقلاب شباط الاسود، حيث جاء اشعال الحرب ضد الجارة إيران، نيابة عن الامبريالية، ولتحويل الأنظار والمعركة إلى غير وجهتها، ولصالح تنفيذ مخطط الامبريالية والصهيونية في المنطقة، وتهديد مصالح شعوبها، والامن والسلم في المنطقة وفي العالم. ويواصل النظام الدكتاتوري اليوم استمراره في هذه الحرب الاجرامية ومواصلة عزل الشعب العراقي عن المعركة الأساسية الدائرة ضد الامبريالية والصهيونية، ودعوته لتعريب الحرب في محاولة لتوجيه الجهود لا ضد الامبريالية وإسرائيل، بل لإسناد (قادسية صدام). كما يواصل حكام بغداد، ابطال 8 شباط، تعاونهم وتحالفهم مع حسين ملك الأردن باتجاه تصفية القضية الفلسطينية من خلال مباركة اتفاق جزار أيلول الأسود مع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ومباركة (مبادرات) مبارك وأطراف كامب ديفيد المعلنة والمستورة من الرجعيين العرب، حلفاء صدام وحربه، وممولي نظامه. هذا ان لم نذكر سياسة التخريب التي مارسها ويمارسها النظام ضد الأنظمة والفصائل الوطنية والتقدمية في حركة التحرر الوطني العربية، وممالأة الامبريالية، والتنسيق مع اداتها العسكرية حلف الأطلسي العدواني، وخيانة الوطن، والتنازل عن أجزاء من أراضيه للحكام الرجعيين العرب، وانتهاك السيادة الوطنية، وغير ذلك من أوجه نهج الطغمة الفاشية. ان سياسة الدكتاتورية الفاشية الراهنة ليست بعيدة عن تراث 8 شباط، بل تستلهم ذلك التراث المشبع بمعاداة الشيوعية والحزب الشيوعي والشوفينية وعموم الحركة الوطنية في بلادنا. فما اشبه الليلة بالبارحة! لقد افتخر انقلابيو شباط بـ (مأثرتهم) بـ (تصفية الحزب الشيوعي)، وأعلن قادتهم ان صوت الحزب الشيوعي لن يعلو بعد عشرات السنين. ان حقائق التاريخ أسطع، والشمس لا يمكن حجبها بغربال، كما يتوهم حكام بغداد الحاليون، الذين راحوا يشنون، منذ سنوات حملات شعواء لـ (تصفية الحزب الشيوعي) مستخدمين مختلف السبل والامكانيات والأجهزة والمأجورين.

ان حزب الشيوعيين العراقيين حزب مجيد، مناضل، ترسخت جذوره عميقاً بين جماهير الطبقة العاملة العراقية وشغيلة وكادحي العراق، وهو يمتلك رصيداً من التجربة الثورية، يمكنه من مجابهة اعدائه من كل صنف ولون. وان هذا الحزب الذي منحه الشعب العراقي ثقته، والذي تنظر جماهير الشعب إلى رفاقه وانصاره البواسل نظرة الامل الوطيد، سيظل حزب الوطنية الصادقة والاممية الحقة، الحزب الذي يستلهم تراث شهدائه وامجاد تاريخه، ويتطلع إلى المستقبل، اميناً للشعب، ومُثل الطبقة العاملة، واثقاً من الظفر الأكيد.

ان ما حدث في 8 شباط سيظل عاراً في جبين أولئك الذي ساهموا في ارتكاب الجريمة، ومن يواصلون ذلك الإرث الفاشي، حكام بغداد المجرمين.. ولا يمكن تغيير اللون الأسود الذي شمل تسعة أشهر من حكم الردة، مثلما يستحيل على نخيل العراق التنازل عن خضرتها الدائمة، وعلى الرافدين ان يصبا في واشنطن.

ــــــــــــــــــــــــــــ

*نشرت في الثقافة الجديدة العام 1985 واعادت نشرها المجلة العام 2015

عرض مقالات: